الاثنين، 29 فبراير 2016

أَرْقَى العِلَاقَاتِ..

أصعب العلاقات وأكثرها تعقيدا هي تلك التي بين بني البشر بعضهم بعضا, ذلك لأنها محكومة بعادات وعقليات متفاوتة في الفهم والإدراك, وموكلة إلى نفسيات متقلبة هي غاية في التعقيد والغموض, لذا تجد الخطأ في حق أحدهم مشكلة كبرى قد لا تُغتفر, وقد تقضي الزلة الواحدة على أجمل العلاقات, فتشقي قلبين, قلب لم يتوقع الخطأ من صاحبه, لذا جُرح كبرياؤه حتى النخاع, وقلب مخطئ يدرك فداحة خطئه, فتراه يكد ويشقى من أجل محو هذا الخطأ والرجوع الى ما وراءه لاستعادة العلاقة بينه وبين الطرف الآخر, قد ينجح وقد لا ينجح, وقد يبقى طوال عمره يستجدي الغفران ولا سبيل إلى ما يشتهي.

أما علاقتنا مع الله ـ  ـ فهي من أرقى العلاقات, فليس ثمة خطأ لا يغتفر, كل خطأ ـ صغر أم كبر ـ له ما يمحوه, وخلفه طرق للعودة, ومحطات للبدايات, ودروب للانعطاف إلى الطرق الرئيسية, وثمة أثواب تُنزع وأثواب نقية تُمنح, ليس بها من شوائب الماضي شيء, ذلك لأن الله ـ  ـ رحيم بعباده.

وكلما زادت الرحمة في قلوب بني البشر على بعضهم كلما توطدت علاقاتهم وازدادت تماسكا, لذا لا عجب أن تجد الأم ـ وهي التي تُعد نموذج الرحمة البشري في حياة كل منا ـ تمنح أبناءها أكثر العلاقات دفئا, ذلك لأنها تعفو وتصفح, وتمحو الزلات ما استطاعت, وتمنح أبناءها فرصا تلو الفرص, لكن يبقى أن لهذه الفرص نهايات, تتفاوت من أم لأخرى بسبب بشريتها القاصرة عن الكمال.

لذا يمكننا أن نستنتج من آيات وأحاديث التوبة صفة الرحمة لله, فبمجرد إدراكنا أن الله تواب؛ لابد أن ندرك أنه رحيم, فمن شرع بابه لكل مخطئ ولكل عاص ولكل مجرم أيا كان جرمه؛ ومهما تكرر خطؤه؛ إنما هو رحيم, ورحمته وسعت كل شيء.

فمسكين أنت يا من اتكأت على علاقاتك بالبشر, وضاعت حياتك وأنت متشبث بعلاقات تظنها سرمدية لا تتغير ولا تتقلب.. فهلا استدركت نفسك ووطدت علاقتك بأرحم الراحمين؟.

اللهم علق قلوبنا بك, واقطع رجائنا عمن سواك.. إنك سميع مجيب الدعاء.

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الثلاثاء، 23 فبراير 2016

واكتملت أوراق البازل.. قصة طويلة بقلمي: حفصة اسكندراني ج5

أحداث الجزء الأول من هنا
وأحداث الجزء الثاني من هنا
وأحداث الجزء الثالث من هنا
أحداث الجزء الرابع من هنا
هاتف صديقه وطلب إليه أن يقدم سفره أسبوعا, وبالفعل نفذ مراده, وحين رآه رق له وأشفق عليه, ونصحه بتأجيل السفر حتى يتعافى, لكنه أصر على السفر فليس ثمة عافية ستلحق به في هذا المكان بعد الذي جرى, فساعده صديقه في حزم أمتعته وايصاله إلى المطار وهو لا يعلم حقيقة ما بداخله.. فقط شعر بأن معاولا لا مرئيا من الانكسار يعمل بلا كلل داخل هذا الرجل ليفتت كل ذرة من كيانه, حتى استحال شبحا صامتا خلال أيام, وها هو يتكأ بوهن على كتفه ميمما وجهه نحو الهروب الكبير..
وطوال رحلته وبعد وصوله وبعد ملاقاته لمندوب شركة ترتب رحلات المبتعثين حتى توصلهم إلى المسكن المتفق عليه سلفا؛ ظل هدفه الوصول إلى سرير يلقي بكاهله عليه بين جدران أربع لا يراه فيها أحد ليزيل قناع التماسك الذي بدأ ينصهر عن وجهه.
ومرت الأيام بطيئة رتيبة, التحق بالدراسة وقلبه لاه عنها, قلما يشد انتباهه حدث من أحداث الحياة, يمضي يومه كأنه معزول عن الناس وعن الحياة بمباهجها بغلاف زجاجي, بينما هو وجراحه وآلامه داخل ذلك الغلاف, وتحت قدمه تناثرت جثث أحلامه المؤدة التي لم يواريها التراب بعد, وداخل غلافه العازل هذا ثمة صراعات تجري يوميا, صراع بين الحب الأناني وبين الشهامة والمرؤة, تارة يغلب الأول منهما الثاني, وتارة يغلب الثاني, وسواء أنهزم الحب أم انهزمت الشهامة والمرؤة فإنه هو الجريح المتألم في كل الأحوال.. هو المنهزم المنكسر في كل الساحات, لا شيء يشغله عن تلك المعارك سوى دقائق يقضيها في صلاة خاشعة أو في تلاوة القرآن فيفتح له كوة في جسم ذلك الغلاف فيعرج من خلالها الى السماء ليحلق في عالم من الأنس والنور, فيحلق متخففا من همومه تاركا صراعاته الداخلية وراء ظهره.
وهكذا توالت الأيام وأخذت الحياة دورتها الطبيعية وتعاقبت الشهور, ومع تواليها بدأ يستفيق تدرجيا.. وبدأت تنقشع الكآبة من حياته, وبدت رؤية الكون والأشياء من حوله أكثر وضوحا في عينه من ذي قبل, حتى إنه أدرك بعد مرور 8 أشهر أنه لا يرغب في استكمال هذه الدراسة البائسة الثقيلة, لقد استفاق على زهد شديد فيها وفي كل ما حوله, مع رغبته شديدة في العودة الى الوطن, ليس شوقا إلى فتاته؛ فتلك المشاعر قد تغلب عليها منذ زمن حتى أنها لم تعد تسيطر على تفكيره, فحبيبته تلك ماتت في قلبه مذ اقترنت برجل آخر, وقد مضى وقت طويل على زفافها, ولا يُستبعد أنها تستعد لتجربة مشاعر جديدة تنتظرها كل عروس بفارغ الصبر ألا وهي الأمومة, لقد انتهى كل شيء.. واستمراره في الهروب ضياع لنفسه وكيانه, فشوقه لوطنه وأهله وأحبته يتضخم يوما بعد يوم, هو لم يكن يتواصل معهم, فقط شقيقته كانت حريصة على التواصل الدائم معه, وثمة اثنين من أصدقاءه المقربين, فحتى الصدقات تتكشف معادنها كلما زادت أميال المسافات الفارقة بين الأجساد مهما توفرت وسائل الاتصال والتواصل الحديثة.
كان اتصال شقيقته يعد بمثابة خنجر في دفاعاته إنها تحمل صوت أمه الدافئ, وأنفاس الماضي البعيد, وذكريات الصبا الجميلة.
 كان يحدثها كما الطفل الصغير.. وكانت تدرك حاجته لسماع صوتها ومعرفة أخبار أسرتها الصغيرة ليشعر بالأنس, فبعد ان لحقت والدتهما بأبيهما في العالم الآخر وهي تتألم لأجل وحدته وعيشه وحيدا بلا أسرة, لأجل ذلك كانت تجمع له المواقف المضحكة والطريفة التي تجري في عالمها لتقصها على مسامعها في نهاية كل أسبوع.
كانت تجعله يقهقه من قلبه, ولم تكن تدري أنها تسيل مدامعه أيضا في بعض الأحيان, لم يتجرأ ليسألها عن أحوال خالته تحديدا, لكنه فوجئ بها بعد 8 أشهر تتحدث عن وليمة أقامتها في منزلها لخالاتها ولأجل ذلك انشغلت عن الاتصال به, سألها بشكل آلي: وكيف حالهن جميعا؟
أجابت بمرح: كلهن بخير, لقد سعدنا باجتماعنا ولم يكن ينقصنا سوى أمي الحبية رحمها الله, وخالتي أم خالد.. حاولنا اقناعها بالمجيء لكنها لا تستطيع الخروج من المنزل كثيرا بسبب ابنتها شفاها الله وعافاها.
خنجر غادر مرق إلى قلبه على حين غفلة, وضع يده على صدره يتحسسه وكأن الطعنة حقيقية, ولماذا عليه أن يهتم؟ لماذا عليه أن يسأل إذا كانت أخته نفسها تجاوزت الأمر وشرعت تقص عليه ما حدث في اجتماع أقاربهما.. هل يعود ويسأل؟ هل يؤلم قلبه الذي تعافى وتماسك؟.. لعلها مرهقة تنتظر مولدها الأول في أشهر حملها الأخيرة, أو لعلها مصابة بوعكة صحية جعلتها تلجأ إلى أمها لتمرضها..
استفاق على صوت قهقهة أخته.. لا يدري عن أي شيء كانت تتحدث؟ حاول مجاراتها في الضحك, لكنه يجزم أنها أدركت انشغاله عن حديثها فخفتت نبرات حماسها, وعند أول نقطة صمت وضعتها, باغتها.. بل باغت نفسه بسؤالها:
ما بها ابنة خالتي.. تقولين أنها مريضة؟..
فأجابته: ألم أخبرك من قبل؟؟
وكانت المفاجأة..
مسكينة وفاء.. إنها.. 

انتهى الجزء الخامس
وفي الجزء السادس بإذن الله سنستكمل أحداث القصة..

همسة:


نصيحة لكل أب وأم... (ساخرة)

نصيحة إلى كل أب وأم تركوا أطفالهم ضحية لأجهزة التلفاز وقنوات الأطفال طوال ساعات يومهم أقول:
جرب يوما وأنت تمر من أمام التلفاز بينما صغارك مندمجون في مشاهدة فيلمهم الكرتوني المفضل؛ أن تقف أمام الشاشة فتسدها عليهم تماما, ثم بخيالك الخصب وسرعة بديهتك تلتقط طرفا من آخر حوار كان يدور في القصة التي يشاهدونها لتنسج أحداثا جديدة ساخنة تغيّر بها مجرى القصة دون أن تبالي أو تلتفتَ لأحداث الفيلم الذي يستمر عرضه خلفك...
فقط غيّر النهايات وانسج من خيالك أحداثا أكثر واقعية, وأكثر قربا والتصاقا ببيئتهم وواقعهم.
بالنسبة لي حين جربتُ فعل ذلك تحول أبنائي الهادئون المنسجمون مع أحداث الفيلم إلى كناغر برية يتقافزون يمنة ويسرة بغضب لمتابعة الشاشة خلفي ‏‎smile‎‏ رمز تعبيري
ولولا أدبهم واحترامهم لي باعتباري أمهم لرموني بكل ما تطاله أيديهم حتى أبتعد وأصمت تماما..
فقط ما أحزنني هو أن محاولاتي في التأليف وجذب انتباههم باءت بالفشل, ومع ذلك أنصح الآباء بهذه التجربة, فلربما تنجحون حيث فشلت أنا ‏‎smile‎‏ رمز تعبيري .. فأطفالنا لو وجدوا البديل منا لما التفتوا لهذه القنوات.
ودمتم سالمين!
بنت اسكندراني