الأحد، 10 مارس 2024

بِأَيِّ حَالٍ جِئتَ يَا رَمَضَانُ؟!


بأي حال جئت يا رمضان؟! نحن لم نعتد قدومك هكذا؟، لم نعتد استقبالك بغصة تمنعنا من التعبير عن السعادة بلقاءك!، لم نعتد أن نكون في قوالب متجمدة بينما دواخلها تنصهر!، لسنا حزانى بقدومك!، حاشا وكلا!، بل نحن في أشد الحاجة لك، ربما أكثر من أي وقت مضى. 

في السابق كنا إذا هل هلالك احتفينا، واذا أقبلت أوقاتك سعدنا بها وانتشينا، نستنشق أنفاسك المباركة بعمق، ونستشعر البهجة التي تنشرها في أرجاء الكون، نفرح بصوت التراويح تشق جنبات أحياءنا، وتنشر الطمأنينة والسكينة في أرواحنا، نسعد بالصيام ومغالبة الجوع والعطش، ونتلذذ في الإفطار بأصناف من الخيرات والنعم. 

 كنا نستقبلك إلى عهد قريب بسعادة عارمة.. لا حد لها!، لكننا في هذا العام نستقبلك بمشاعر نعجز عن وصفها وتحديد ماهيتها، أخطئُ إن قلتُ أن شوقنا إليك قد خبى، لا والله بل ازداد!، لكنه شوقا لا نعبر عنه بالسعادة ولا بالحزن، بل هو شعور أعمق من كليهما.

ولكي نستوعب هذا الشعور العجيب؛ لنتخيل أنفسنا نتعرض لموقفين، الأول منهما:
رجل جاع طوال يومه، وانهك في عمله، ثم في المساء وُضعتْ أمامه وجبة شهية لم يكن ينتظرها.. فكيف سيكون شعوره؟ حتما سيقبل عليها بسعادة متناهية، وسيأكل منها بشغف عظيم، وسيجهز عليها وهو مستمتع بالحديث عن أشياء محببة إلى قلبه، يتخللها ضحك وصخب تعبيرا عن سعادته.

ثم في الموقف الثاني لنتخيل أن ذات الرجل قد ضاع في صحراء قاحلة وحده، ونفد منه الطعام والشراب، وذاق الأمرين، يبحث عن خيط نجأة ولا يجد، حتى قضى ليال موحشة يصارع وساوس نفسه تارة، ويقاوم عطشه وجوع بطنه تارة أخرى، ثم إذا به فجاة يجد أمامه منقذا أتى لإنقاذه، وبيديه ذات الوجبة الشهية التي قُدمتْ له في موقفه الأول، أتعلم ماذا سيفعل حينها؟ سينهار باكيا، ومن فوره سينقض عليها يلتهم قضمات منها لكنه سينخرط أثناء ذلك في بكاء مرير، ولربما سيكتفي بتناول اليسير من اللقيمات لينهمك بعدها في شرح ما لقي من الصعاب في ضياعه.. 

فقل لي بربك أليست هذه الوجبة أغلى عليه من الوجبة الأولى؟ وأنه فعليا أكثر سعادة بها من الأولى رغم أنها من ذات النوع وبنفس الكمية؟، ومع ذلك انهار باكيا في موقفه الثاني، فهل كان حزينا؟ أم كان في منطقة بين الحزن والفرح؟، فثمة شعور بين الحزن والفرح، ولربما يكون اقوى حدة وعمقا منهما. 
فمخطئ من علمنا أن هذين الشعورين متضادين وليس بينهما منطقة مشتركة قد تكون أشد عنفا ووطأة على النفس من طرفي النقيض هذين. 

فأهلا رمضان بمشاعر فرح وحزن وسعادة ومرارة واستبشار وألم، أهلا رمضان على أمة موجوعة تكالبت عليها الامم، أهلا رمضان وأهل غزة يبادون ليل نهار، وأهل السودان يزلزلون بالمصائب ليل نهار، أهلا رمضان وجراح أمتنا تنزف في كل مكان حتى أننا نعجز أن نحصيها عددا، غير أن غزة جرحنا الأقرب والأعمق. 
أهلا رمضان والجياع يتساقطون أمام أعيننا على الشاشات وهم يستنجدون بنا، نسمع صرخاتهم، نرى جراحهم، نبصر أوجاعهم، ونتأمل وجوه أيتامهم، ونرى دموع نساءهم، ونسمع عتاب شيوخهم، وندرك يوما بعد يوم خسة عدوهم. 

فبأي حال جئت يا رمضان؟ 

أرواحنا منهكة من الألم على المجازر التي لا تنتهي، ومنهكة من العجز حتى عن إيصال إبرة مسكنة أو حليب طفل أو حفنة قمح أو ربطة خبز!

كم بكينا عليهم بكاء مريرا لا يسمعون صوته ولا يرون مرارته، كم هدهدنا أطفالهم خلف الشاشات بخيالنا، وكم نطقنا بعبارات نصبر فيها الثكالى والجرحى ونهدئ من روعهم غير أن الصوت لم يتجاوز حناجرنا! ولم يصل إلى مسامعهم. 
كم ثنينا الركب أمام التلفاز طلابا تحت أقدامهم نتعلم الصبر.. نتعلم الشجاعة.. نتعلم العزة.. نتعلم حسن الظن بالله.. نتأمل كيف يحمدون الله بعد كل قصف.. وبعد كل فقد.. ومع كل نفَس! 
كيف يحبون الحياة؟ وكيف يفدون الوطن؟ 

 كم نظرنا إلى فائض الملذات التي بين أيدينا بحسرة وألم، وكم رحلنا بخيالنا نتخيل أن نخترع وسائل بسيطة تخترق العدو المتربص بهم لكي نوصل لهم بها الطعام والدواء، فتارة نتخيل بالونات ذكية نحمّلها ما لذ وطاب من الطعام، ونخبئ فيها رسائل حب لنرسم بها شيئا من السعادة على وجوههم، ثم نطلقها في الهواء فلا تهبط إلا بين أيديهم! دون أن تعصف بها رياح!، أو تسقطها أمطار! 
وتارة نتخيل طيورا قوية تشبه الحمام الزاجل في مهمته غير أنها قوية بما يكفي لحمل الطعام والدواء، فلا ينالها عدو، ولا يقدر عليها متربص، حتى تصل إلى مبتغاها، فتخفف حدة جوعهم ونقص دواءهم ووحدة قلوبهم!. 
هي أفكار تبدو مضحكة وبائسة، لكنها تعبيرا حقيقيا عن مدى العجز الذي يعصف بنا وبأفكارنا عصفا. 

فواحر قلباه يا أهل غزة.. هل أبقيتم لنا رغبة في إظهار البهجة بلقيا رمضان وأنتم مقهرون مظلمون لا تتسلل البسمة إلى وجوهكم؟ هل أبقيتم لنا رغبة في التسوق استعدادا للشهر ونحن نرى المساعدات تتساقط عليكم من السماء على استحياء لا تسمن ولا تغني من جوع؟ 
 هل أبقيتم لنا رغبة في تزيين بيوتنا ونحن نبصر خيامكم الهزيلة وهي عبثا تحاول أن تقاوم المطر و الريح؟ 
هل أبقيتم لنا رغبة في شراء حاجيات عيدنا ككل عام بينما عيدكم اتشح بالسواد وبالفقد وبالأسى؟ 
والله إنا لنخجل من راحتنا مع تعبكم، وشبعنا مع جوعكم، وأمننا مع خوفكم، وسعادتنا مع حزنكم، وضحكنا مع بكاءكم، وقوتنا مع ضعفكم، ونومنا مع قلقكم، وتطاولنا في البنيان مع انهيار أبنيتكم.
ووالله إنا ليقتلنا مجرد حياء صغاركم في طوابير الطعام حين يغطون وجوههم بالأواني التي تتضور هي الأخرى جوعا وشوقا للطعام!

فبأي حال جئت يا رمضان؟! 

اللهم إنا ظمأى فأغثنا بنصر عاجل تقهر فيه عدونا، وترد فيه أرضنا، وتطهر به قدسنا من رجس اليهود. 
اللهم إنا ظمأى فأغثنا برحمة منك ترحم بها ضعيفنا، وتداوي جريحنا، وتطعم بها جائعنا، وترحم بها صغيرنا وكبيرنا، ذكرنا وأنثانا، حينا وميتنا.. اللهم عجل بنصرك وفرجك يا أرحم الراحمين، إلهنا الى من تكلنا؟ ما لنا رب سواك فندعوا، اللهم أقر أعيننا في هذا الشهر الكريم برحمات تغشانا، تقوي بها عضدنا، وتنصر بها ضعيفنا، وترحم بها موتانا، اللهم إنك لا يعجزك شيء، فلا قوتهم ولا قهرهم ولا ظلمهم ولا عتادهم ولا جيوشهم تعجزك، فاللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعجل بهلاكهم يا قوي يا عزيز، واحفظ اللهم بلادنا هذه وسائر بلاد المسلمين من مكر الماكرين وحقد الحاقدين، وأعنا في هذا الشهر المبارك على الصيام والقيام وصالح الأعمال وتقبله منا واجعلنا فيه من الفائزين. 
 
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. 


ملاحظة هامة : رغم كل شيء فإنا نستبشر بقدوم شهر رمضان امتثالا لأمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال: ‏«قد جاءكم شهر رمضان شهرٌ مبارك، ‏كتب الله عليكم صيامه ‏فيه تُفتح أبواب الجنة ‏وتغلق فيه أبواب الجحيم ‏وتغل فيه الشياطين ‏فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر ‏من حُرِمَ خيرها فقد حُرِم»

 فمبارك علينا وعليكم وعلى الأمة الإسلامية جمعاء شهر رمضان المبارك 
وكل عام وأنتم بخير
حرر ونشر يوم الأحد الموافق ٢٩ شعبان لعام ١٤٤٥ بعيد رؤية هلال شهر رمضان المبارك من المسجد الحرام بمكة المكرمة 

حفصة اسكندراني 




السبت، 8 أبريل 2023

مُعجِزَةُ الحِمَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ !



بسم الله الرحمن الرحيم 

مُعجِزَةُ الحِمَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ ! 

(اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ..) 
نعم إنها (آية الكرسي) تلك التي اعتدنا أن نقرأها بشكل آلي على فُرُشنا كل ليلة، نقرأها لأجل أن تحمينا من الأحلام المزعجة والكوابيس، ولأجل أن يوكل الله بنا ملائكة تحفظنا بأمر الله من أذى الشياطين والجن.

البعض منا حين يتلوها يتمتم بها بخفوت ورتابة، والبعض يجهر  بها بقلق كي يسمعها للعوالم الغيبة من جن ملائكة، فكأنه يعلمهم أنه قد قالها..! 
لكن الأمر ليس كذلك.. 
فأولى من نُسْمِعَه (آية الكرسي) حين نتلوها هو أنفسنا!، فآية الكرسي ليست مجرد كلمات تقرؤها لتحصل بها الحماية التي ترجو، وإنما بقدر إيمانك بما تتلوه تكن تلك الحماية!.

فشتان بين من يستحضر حين يقرؤها أنه العبد الضعيف المنهك الذي احتاج إلى النوم ليريح عقله وجسده البشري الضعيف، وأنه وفي قمة هذا الضعف إنما يركن إلى الحي القيوم الذي لا يغفل ولا ينعس ولا ينام.. شتان بينه وبين ذاك الذي يقرؤها وهو غافل عن عظمة الله وقوته. 

شتان بين من يستحضر أنه إنما يوثق صلته بملك الكون الذي له ما في السماوات والأرض العالم بكل خفاياه في الماضي والحاضر والمستقبل.. وذاك الذي يقرؤها ثم يغالبه النوم قبل إتمامها، أو تغالبه غفوة من نعاس في أثناء تلاوتها ثم يستفق ليجد لسانه قد حرّف النص القرآنيً وحاد عنه! 

شتان بين من يقرأ (آية الكرسي) لا يفقه منها معنى، ولا يدرك من عظمتها وجها، وبين من يستشعر حين يتلوها صغر حجمه، وضآلة نفسه مقارنة بملك الملوك الذي وسع كرسيه السموات والأرض، فكيف بالعرش ذاته؟ وأين هو هذا العبد من هذا الكون الفسيح؟ وكيف أتيح له وهو العبد الضعيف أن يصل حباله بمالك الملك الذي لا يعجزه حفظ الكون وما فيه؟! فأنى لهذا العبد أن يشقى أو يقع فريسة للجن والشياطين بعد هذه الوقفة الروحانية؟!. 

ولو تأملتَ تجد الغرب المتمدن لديه حل لكل مشكلة، ولديه سلاح لكل عدو.. إلا الشيطان، فإذا ما تسلطتْ الشياطين على أحدهم في يقظته أو في منامه كدرت صفوه، ونكدت عليه حياته، وأذهبت لبّه، وانتهت به مجنونا أو سكيرا أو مدمنا لما يذهب عقله ويريحه من واقعه، أو مستعينا بالمزيد من الجن والسحرة لتخفف عنه ما هو فيه، هذا إن لم يكن الانتحار أفضل خياراته. ولو أن الذين يعانون من غير المسلمين من تسلط الشياطين يعلمون بالذي أنعم الله به على المسلمين من هذا السلاح الصارم البتار؛ لتزاحموا على دخول الإسلام من أجل ذلك.. ودونك قصص وأفلام هؤلاء تشهد كيف يعذبون من تسلط الشياطين حد اليأس وحد الجنون. 

وليس كل من يقرأ آية الكرسي قبل النوم يجد أثرها، فإن لم تستشعر عظمة الله وأنك أنت وكل شيء تخاف منه؛ إنما جميعكم ذرّات في كون الله، فإن لم تستشعر ذلك فلا تقل: قرأتُ آية الكرسي ولم أجد لها أثرا!! فهاك مفتاحها بين يديك، والمزلاج هناك في قلبك وليس في لسانك، فأدخل المفتاح في مكانه الصحيح حتى تنعم بحماية الله لك، وستظل هذه الآية سلاحا بين يديك لطالما تعلمت كيف تمسك هذا السلاح وكيف تستعمله، إنها سلاحك ضد مخلوقات لا تراها، ولا تدرك كنهها، ولا تعرف من أي زاوية ستؤذيك ومن أي موضع ستنقض عليك، فإذ بك بكلمات تتلوها تصبح أنت القوي وهي الضعيفة! وأنت المنتصر وهي المغلوبة!، وهب أن بك سحرا أو حسدا لا سمح الله؛ فاعلم أنك لا تزال تقرؤها وتقرأ آيات كتاب الله بإيمان ويقين المرة تلو المرة حتى يفك الله ما بك من أذى، وينصرك على الجن والشياطين، ويخرجك من سراديبهم المظلمة دون الحاجة إلى مشايخ ولا رقاة، بل يكفيك كتاب الله وخاصة آية الكرسي والمعوذتين والإخلاص منه. 

وستبقى (آية الكرسي) معجزة الحماية الربانية الكبرى التي أنعم الله بها على عباده في حربهم الأزلية مع عالم الشياطين والجن، وتكتمل تلك الحماية بذكر من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو الحديث الصحيح : ((مَنْ قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلْك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكُتبت له مائة حسنة، ومُحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضل ممَّا جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك))، فإذا جمعت بين هذين السلاحين فاعلم أنك في حصن قوي بالله، لا يخيفك خلق من خلقه، ولا يضعفك سحر ولا حسد.

فما أعظم نعم الله علينا بآية الكرسي والمعوذات والأذكار وسائر القرآن!.

 

والله لو عكفنا لله شكرا على هذه النعم ما وسعت أعمارنا شيئا من ذلك، ذلك لأنها سند روحي عظيم نحن بحاجة له كل صباح ومساء، وعقب كل صلاة، وعند الخلود إلى النوم والضعف، وعند المرض، وعند الانكسار، وعند الخوف، وعند سكرات الموت، لتذكرنا أننا  إنما نستمد قوتنا من عظيم السموات والأرض الذي (لَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ). 


فاللهم احفظنا بالقرآن قاعدين واحفظنا بالقرآن قائمين واكتبنا عندك من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات.
وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم 
بقلمي/ حفصة اسكندراني 

17 رمضان 1444 







الجمعة، 10 فبراير 2023

حِينَ انْهَارَتِ البِنَايَاتُ ! ( قصة قصيرة بقلمي )

عادُ الأبُ مذعورًا لا تقوى قدمَاه على حملِه، تلك القدمانِ الّلتان لم تَعْتَدْ حَمْلَ جسدِهِ فحسب؛ بل حمَلتْ معَهُ جبالًا من همومِهِ، وتلالًا من أوجاعِهِ، وبحارًا من خيباتِ أمَلِهِ، لكنّهُ رغمَ ذلكَ حَاولَ أن يستَحِثَّ الخُطَى بينَ أكوامِ الثلجِ التي كَسَتِ الأرضَ حتى غطّتْ فخذَيْهِ، ومع تساقطِ الثلجِ المستمرِّ تجمعتْ الثلوجُ على منكَبَيْهِ ورأسِهِ، وتلفَّعتْ بالثلجِ بعضُ شعيراتِ أهدابِهِ وذقنِهِ.. رأتْهُ ابنَتُهُ متجهًا نحو خيمَتِهم، وملامحُ حُزنٍ جديدٍ استطاعتْ أن تجدَ لها مكانًا على صفحةِ وجههِ، كانتْ المسافةُ بينهمَا ليستْ بالبعيدةِ، فهي حيثُ تَقِفُ يمكنُها رؤيةُ فزعِهِ، وسمَاعُ لُهاثِهِ وهو ينادي: يا أُمَّ مُحمد! لقد انهارتِ البِنَاياتُ! انهارتْ جميعُها يا أمَّ محمد! لقد انهارتْ على رُؤوسِ ساكنِيها.. وإنّا للهِ وإنّا إليه راجِعون!

أبعدتِ الفتاةُ خصلاتِ شعرِها الأشقرِ عن وجهِهَا، كأنّها تُحاولُ إزاحةَ كلَّ ما يُمكنُهُ إعاقَةَ استيعابِها، أو يحولَ بينها وبين الواقعِ الذي تُحاول بمشقةٍ أن تبقَى فيهِ، لقد قالَ انهارَتْ البناياتُ بالفعلِ! هُنا تسمَّرتْ قدمَاها حيثُ تقفُ، فحجمُ الصدَمَاتِ التي يتلقوْنَها باتتْ أكبَر من استيعابِها، وحجمُ التقلُّباتِ والصراعاتِ النفسيّةِ التي تعيشُها مؤخرًا؛ أصابتْ عقلَها ببلادةٍ في تلقي واستيعابِ المصائِبِ، هذه الحالةُ لزِمَتْهَا منذُ بَدأَ شتاءُ هذا العامِ، حتى جَعَلتْها تَتهَرّبُ مِن نفسِها، ومِنْ حديثِ عقلِها، حتى باتتْ الفتاةُ تشبهُ الشتاءَ في برودتِهِ، والجليدَ في توحّدِ لونِهِ وكلاحَةِ ملامِحِهِ! ورغمَ هذهِ الحالةُ العجيبةُ التي تستنكرُها من نفسِهَا؛ فُوجِئَتْ قُبيلَ فجرِ هذا اليومِ بنفسِهَا؛ حينَ شقَّ صُراخُها المضطربُ سكونَ الليلِ!

  في الواقعِ لم تكنْ وحدَها التي تصرخُ كما ظنّتْ لأولِ وهلةٍ، بل كان الجميعُ يصرخُ حولَها، إثرَ حركةٍ عنيفةٍ هزّتْ الأرضَ تحتَ خيمتِهم في جُنحِ الظلامِ، فكأنَّ الأرضَ تُدَكُّ من تحتِهم دكّا، الخوفُ والذعرُ كانا العاملَ المشتركَ بينهم جميعا، الصراخُ يأتي من جميعِ زوايا خيمتِهِم الضيّقةِ، صرخاتُ هلعٍ يُطلقها إخوتِها السبعة ووالديْها، بالإضافةِ إلى بكاءٍ عنيفٍ أطلقَهُ أيتامُ أختِها الصغارُ الذين يشاركونَهم خيمَتَهُم ومصِيرَهم في هذه الحياةِ، بل حتى أخاها المريضُ العاجزُ عن الحركةِ والمتقوقِعُ في نفسِهِ؛ صرخَ كما لم يصرخْ من قبل!، وقبلَ أن يستوعِبوا أنَّ السَّماءَ لن تقعَ على الأرضِ، وأنَّ القيامةَ لمْ يأذنِ اللهُ لها أنْ تقومَ؛ سمعتْ من يصرخُ خارجَ خيمتِهم: إنّهُ زلزالُ! اللّهم سلّم سلّم!

توقّفَ اهتزازُ الأرضِ فجأةُ كما بدأَ، بعدَ أن بعثرَ محتوياتِ خيمَتَهم البائسةِ، قبل أن تسقطَ أعمدَتَها الواهيةِ هُنا وهناك، ويُغطي قماشُها المبلّلُ وجوهَهم، بينما أمُّها رغمَ الظلامِ تحاولُ أن تتحسّسَ جميعَ أفراد أسرتِها، والأبُّ لا يَنْفَكُ ينادي أسماءَهم الواحِدَ تُلوَ الآخرِ مرارًا وتكرارًا.

حينَها قضَتْ ما بقي من الليلِ تبكي لأوّلِ مرةٍ منذُ وقتٍ طويلٍ، تبكي بصمتٍ حتى لا يَسمَعَ بكاءَها أحدٌ فيتألّمْ لتألّمِها، أو يضطرّ لأنْ يخفّفَ عنها فيسرِدَ عليها نعمَ اللهِ علَيهم، وفي هذهِ الحالةِ بالذّات ستشعرُ كَمْ أَنّهُ كاذبٌ!، نَعمْ لم تَعُدْ تقوى على التحمّلِ بعد، فكلماتُهم تلك لا تُدفِءُ جسَدَها النحِيلِ ذي الستةِ عشرَ عامًا، ولا تسكتُ جوعَ بطنِها حينَ ينهشُ أحشائَها، ولا تذيبُ جليدَ الهمومِ المتراكمِ على قلبِهَا!

إنّها بشرٌ من لحمٍ ودمٍ، لقد كانتْ على مرِّ سنواتِ تشرُّدِهم قويةً متماسكةً، تخفّفُ البلاءَ عمّن حوْلَها، لكنّها لم تَعدْ كذلك!، وشعورُها بأنّها لم تَعدْ كذلِكَ يُؤلِمُها، فهي تَخْشى أن يُعَشْعِشَ الاعتراضُ على أقدارِ اللهِ واستبطاءُ الفرجِ في زوَايا روحِهَا، حتى يَسْتَنْطِقَ لسَانَها بما لا يُرضِي ربَّها، لأجلِ ذلكَ تحاولُ الهَرَبَ من نفسِها اليائسةِ تلكَ حتى لا تحين لحْظَة ضعفٍ فتنالَ من إيمانِها ما ينَالُه الذئبُ من فريستِهِ.

لقد مرّتْ هي وأسرتُها بصنوفٍ من الابتلاءاتِ والصعابِ، بعضُها يُحْتَمَلُ وسُرَعان ما يمضي، وبعضُها كالكابوسِ يجثِمُ على الصدرِ حتى لا يدعَ مجالًا للنفسِ، ويظنُّ الظّانُ أنّهُ لن ينتهي أبدًا إلا بموتِهِ، ولعلَّ أشدّ كوابيسِها: كابوسُ الشتاءِ الذي لا يُشبِه في شدّتِهِ كابوسًا آخرَ، وكذلك كابوسُ الجوعِ الذي لا يُضاهِي ألَمَهُ كابوسًا آخرَ، هي حقًا لا تعلمُ أيُّهُما أشدُّ فتكا بها، لكنّها في كلِّ مرةٍ ينهشُ فيها البردُ جسدَها ويقضِمُ أطرافَها؛ ويحولُ بينَها وبينَ قضاءِ حاجَتِها أو تجفيفِ ثيابِها؛ تقسمُ حينَها أن الشتاءَ في العراءِ لهوَ أعظمُ ابتلاءٍ في هذهِ الحياةِ!، وحين تنجحُ هي وإخوتها في الحصولُ على بعضِ الحطَبِ أو شيءٍ من الوقودِ للتدفئةِ، بينما يعجزونَ عنِ الحصولِ على كسْرَاتِ خبزٍ؛ حينَها تُقسِمُ أنّ الجوعَ هو الأشدُّ ألمًا وفتكًا بالمرءِ في هذهِ الحياةِ! وهكذا يَمُرُّ بِهمُ الشّتاءُ.

ومنْ وقتٍ لآخرَ يأْتي بعضُ المُحسِنينَ بمساعداتٍ تجعلُ عقاربَ الزمنِ تُسرِعُ من دَورَانِها، حتّى إذا حلَّ العُسْرُ ثانيةً أبطأتْ بل وكادتْ تَقِفُ عنِ الحركةِ تمامًا!.

في الخريفِ القريبِ وصلتْ لمخيماتِهِم جمعياتٌ إغاثيّةٌ لدراسةِ أحوالِ اللاجئينَ، ومدى احتياجَاتِهم، لكنّهم كما يأتونَ فجأةً يتبَخَّرونَ فجأةً، ومعهم تتبخّرُ الوعودُ التي يعِدُونَهم بها بقربِ انتهاءِ مآسِيهم، لتعودَ الآمالُ خائبةً لسباتٍ شتويٍّ عميقٍ قبلَ أنْ تُوقظَها عودَتُهم مرةً أخرى، وهكذا دَوَاليك!، هُم في الحقيقةِ لا يتلاعبونَ بهمْ بقصدٍ؛ وإنما احتياجاتُ اللاجئينَ في تلكَ البقاعِ تفوقُ طاقاتِ هذهِ الجمعيّاتِ وجميعِ درَاساتِهم.

ومَعَ دخولِ الشتاءِ أعلنتْ إحدى الجمعياتِ عن انتهاءِهم من تشييدِ مُجمّعِ بناياتٍ لإيواءِ سُكّانِ المخيّماتِ، وما أَجمَلَ ذلكَ من خبرٍ!، لقد شَاع الخبرُ بين الجميعِ ومَعهُ حلّتِ السّعادةُ، فأشرقَتِ الوجوهُ كما تشرقُ صبيحةَ يومِ الفطرِ، واشرَأَبَّتِ الأعناقُ في ترقبٍ وحذرٍ، وبالفعلِ بدأَ تسكِينُ الكثيرِ منَ الأُسَرِ في تلك البِناياتِ، وخَلَتْ خيمةٌ وراءَ خيمةٍ من بُؤسِها، لكنَّ الاختيارَ لمْ يقعْ على خيمَتِهم، فبدأَ القلقُ يَعْصِفُ بالفتاةِ وأُسْرتِها مع هبوبِ رياحِ الشتاءِ الباردةِ، وهطولِ الأمطارِ المستمرِّ، ثمّ عَلِموا أن التسكينَ يحقُّ للأَوْلى فالأَوْلى، فُهم يأخذونَ الأُسَرَ التي لا عَائِلَ لهم، والأُسرَ التي بها أكبرُ عددٍ من المرضى وكبارِ السِّنِ، ولأنَهم لم يكونوا كذلكَ فإنِّ الأمرَ قد يتأخرُ قليلًا.

ومضَتِ الأيّامُ تلوَ الأيّامِ حتّى اكتملَ تسكينُ جميعِ البناياتِ، ولا مفرَّ لها ولأُسرَتِها من قضاءِ شتاءٍ جديدٍ في خيمتِهم الضيّقةِ الواهيةِ، التي لا تصدُّ ريحًا، ولا تقي من مطرٍ، ولا تحولُ بينَهم وبينَ سماعِ أصواتِ الريحِ وهي تعوي في العراءِ مِن حولِهم.

(لقدِ انهارَتِ البِنَاياتُ يا رِجَال!)
انتبهتِ الفتاةُ من شُرودِها، وعدَّلتْ حِجَابَها وهي تنظرُ إلى أبيهَا وهو يَحشِدُ جيرانَهُ ليهبّوا للمساعدةِ، بينَما هي لازالتْ تحاولُ جاهدةً استيعابَ الأمرِ.
لازلَتْ تَذْكُرُ مشاعرَها حينَ رحَلتْ أُسرَةُ أمِّ خالدٍ وأُمِّ غسانٍ، وعائلةُ العمِ جابرٍ، ومعلّمةُ المخيماتِ مع أُيتامِها، وأقربُ صديقةٍ لها، نعمْ كانتْ تشعرُ بالسعادةِ لأجلِهم، لكنَّ شعورًا آخرَ أقلَقَها، فشدّةُ البردِ والجوعِ باتتْ تحولُ بينَها وبينَ الإيثارِ وحبِّ الخيرِ للآخرينَ للحظاتٍ، وقد علّمتْها المِحنُ أن تكونَ على درجةٍ عاليةٍ من النقاءِ والخلقِ الرفيعِ، والرضى التامِّ بأقدارِ اللهِ، إلا أنَّها قد أُنْهِكَتْ، وتُريدُ تركَ الخيامِ والاستقرار بين جدرانٍ تحتويهم وتحتضِنُهم.

ومِنْ تلكَ الزاويةِ تسلّلَ الحزنُ إلى نفسِهَا، وسيطرَ عليها مُذْ بدأَ الشتاءُ، وصارَتْ تُحاربُ الأسئلةَ التي تصرخُ في أعماقِها: متى ينتَهي هذا البؤسُ؟ وإلى متى سنتحَمَّلُ هذا العناءَ؟ ترى هل هُناك مَنْ هو أبأسُ من قومِنا على وجْهِ هذهِ البسيطَةِ؟ لماذا لم يقَعِ الاختيارُ علينا لنعِيشَ في تلكَ البناياتِ؟ وأيُّ خيرٍ في تأخيرِ انتقالِنا إلى منزلٍ يحمينَا من هذا العَنَاءِ؟

 وحِينَ انهارتِ البنَايَاتُ أدركَتِ الفتاةُ شيئًا لمْ تكنْ قد أدْرَكَتْهُ، حينَ انهارتِ البناياتُ استفَاقَتِ الفتاةُ من تلكَ الحالَةِ التي سيطَرَتْ عليها، لقدْ دبَّ الإيمانُ في قلبِها ثانيةً، وكأنَّها أدركتْ صُورةً أخرى منْ لُطفِ اللهِ بها وبأسرَتِها، وحكمةً أخرى من حِكمِ اللهِ في اختياراتِهِ، فباتتْ ليالِيها التاليةِ لهذا الحدَثِ تحمدُ اللهَ على عظيمِ نعمِهِ بهمْ، فهِي لم تكُنْ في البناياتِ!، ولم تَعشْ لحظاتٍ رعبٍ تحتَ الأنقاضِ محشورةً بين حجارةٍ وحديدٍ وأسلاكٍ، ولم تقفْ لتنادي بين الرُّكامِ الصامتِ أمَّها أو أختَها لتُنصتَ هل يتسللُ أنينُ أصواتِهم إليها أم لا؟، ولم تنتظْر بيأسٍ انقاذَ أحدٍ من أهلِها من تحتِ الأنقاضِ فتعالجَ الشعورَ القاتلَ بالأملِ الممزوجِ بالعجزِ والقهرِ والّلاأمل!، إنَّها لمْ تنتَظر جرافاتٍ ومعداتِ حفرٍ ولم تستجدِ رحمةَ العربِ أوِ المجتمعاتِ الدوليّةِ لتنقذَهم، إنَّها لمْ تحفرْ قبورًا ثم لم تَجِدْ جثثَ أحبّتِها لتواريهم في تلكَ القبورِ!ِ، إنّها باختصارٍ تعاني مِنْ مجرّدِ جوعٍ ينتَهي بلُقمَةٍ! وشتاءٍ سينقضِي عمّا قريبٍ!، لقد نفضَتْ غبارَ اليأسِ عن نفسِها لتبقى قويّةً أمامَ نفسِها، وأمامَ أُسرَتِها، وأمَامَ الأيتامِ الجددِ الذينَ يتوافدونَ إلى خيمتِهم الرّحبَةِ بعدَ أنْ فقدوا ذوييهِمْ. فَوَاااحَرّ قَلْبَاهُ!

بقلم حفصة اسكندراني
8 فبراير 1232

الأربعاء، 8 فبراير 2023

تَحْتَ الرُّكَامٍ ثَلاثَةُ رِجَالٍ!

تحت الركام ثلاثة رجال، لا يدري أحدهم بالآخر ولا يسمع صوته، وجميعهم يدركون أن خروجهم من تحت ركام مبنى مكون من عشرة طوابق - انهار بسبب زلزال عنيف - لهو ضرب من ضروب المستحيل.

أما الأول منهم فهو يصيح بذعر وقهر: لم يارب تفعل بي هذا؟ ماذا فعلت لك لتصنع بي هذا؟ ألم يكفيني ما بليتني به من مصائب؟ أتنتقم مني وأنا الضعيف؟.. أي منطق هذا؟ 
الناس حولنا يعيشون في رغد من العيش ونحن نعيش بؤسا يعقبه بؤس.. فأي عدل هذا؟ إذا أتتنا المصائب من البشر قلنا بشر وصببنا جام غضبنا عليهم.. فماذا نفعل إذا جاءتنا المصائب منك؟ يارب إذا أردت قبض أرواحنا فلم تعذبنا أولا؟ ألست الرحيم؟ فأين رحمتك؟ 

وأما الثاني فهو أيضا يصيح بخوف وقلق: يا ناس انقذوني! أنا هنا تحت الكرام! يا أبي.. يا أمي.. يا أخي.. لا تتركوني! يارب اجعلهم يصلون إلي عاجلا غير آجل ! يا فرق الإنقاذ أين أنتم؟ لم لا أسمع أصوات الرافعات والحفارات! هل هناك من يسمعني؟ تعبت والله من الحياة فأغيثوني! لا يعقل أن كارثة كهذه لم تستدعي تدخلا دوليا؟ أين المتطوعون؟ هل هكذا تتعاملون مع البشر؟ أحشرة أنا حتى أموت تحت الركام هكذا؟ يارب سخر لي من ينقذني!

وأما الثالث فهو هاديء مستكين يذرف دموعه بصمت وأنين، يتلو القرآن تارة ويبكي تارة وهو يناجي ربه: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، سبحانك ربي ما أرحمك ما أعدلك ما أعظمك! إن أحببت عبدا ابتليه! فاللهم خفف بلوتي وفرج كربتي، وسبب الأسباب لنجاتي، اللهم إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي! يارب غمسة في الجنة ستنسينا البؤس كله.. اللهم فصبرنا حتى نلقاك وانت راض عنا! 

هذا حال الثلاثة تحت ركام ذلك المبنى.. وهناك أصناف من الركام تحتجز المرء تحت ثقلها وقسوتها، فهناك ركام الهموم، وركام العجز، وركام الديون، وركام القهر، وركام المرض، وركام السجون.. كلها تجثم على صدر صاحبها حتى تكاد تودي بحياته إلا أن يشاء الله له فرجا. 

نحن لا نختار الركام الذي سنُبتلى به، ولا نعلم الغيب لنخمن أي ابتلاء سيبتلينا الله به، غير أننا يمكننا أن نختار أي الرجال الثلاثة نريد أن نكون؟ وللعلم فكلهم من المسلمين غير أن الإيمان في القلوب درجات. 

فإذا كان حال الثالث أحب إلى نفسك فاعلم أن وراءك استعداد عظيم، وتربية للنفس، وإيمان بوعد الله، وإدراك لماهية الدنيا، وتصديق بما وعد الله به عباده، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وحسن أدب مع الله مع حسن ظن به، وطاعة في السر، وصنائع معروف، ودعاء في جوف الليال، وعبادات في الرخاء.
ثم سل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة وأن يقبضنا إليه غير خزايا ولا مفتونين، وأن يفرج هم المهمومين من المسلمين ويفرج كربهم ويرحم ضعفهم ويجبر كسرهم. 

الخميس، 17 فبراير 2022

حينما يتألم لك حبيب وأنت عاجز عن التخفيف عنه!!

حينما يتألم لك حبيبٌ وأنتَ عاجزٌ عن تقديم يد المساعدة له أو التخفيف عنه = تتمنى ((في لحظة يأس)) لو انشقتْ الأرض وابتلعتك...أو كنتَ نسيا منسيا...

ولو كان نصيبك من السعادة في هذه الحياة يقبل القسمة لوهبتَه ـ في لحظة تهورٍ ـ حظّك منها إلا القليل الذي تقيم به صلبك وتسد به رمقك!!

وكلما ازداد ألم الحبيب واستغرق في عذاباته كلما تعرى لك عجزك!..
 وتكشف لك وهنك وضعفك!... 

وكلما ازددتَ اختناقا من قناع القوة والتماسك الذي اضطُررتَ أن ترتديه أمامه لتصبّره.

فتكره نفسك... وتضيق عليك الدنيا بما رحبتْ.

 وتتمنى لو أن بيدك أن تفر من أمامه ومن أمام الناس أجميعن فترحل بعيدا بعيدا...

 فتحط رحالك في جزيرة نائية وسط بحر قصيّ حاملا معك كبتك وألمك وقلة حيلتك...

 وهناك تفرغ مشاعرك المكبوتة وشحنات غضبك وقهرك براحتك... فتطلق ضعفك من معتقله حرا طليقا... فتصرخ كيفما تشاء.. وتدمر ما تشاء... وتبكي... ثم تبكي.... ثم تبكي.... وتبكي حتى تذبل زهرتك.

فإذا ما انقضتْ لحظة اليأس التي مررتَ بها حين ذكرتَ الله واسترجعتَ؛ وعدتَ من جزيرتك التي رحلتَ إليها بخيالك مسرعا, وعاد إليك رشدك زاحفا رويدا رويدا = فانهض وارتدي قناع القوة الذي كدتَ تمزقه!.... انهض ولملم شعثك وخبئ ضعفك فأمامك الكثير لتقدمه لأحبتك. فهم حقا في أمس الحاجة إليك وإن بدا لك غير ذلك.

أسأل الله ألا يرينا مكروها في أنفسنا ولا في حبيب لدينا.

الثلاثاء، 26 أكتوبر 2021

ومرّ عام على فراقك أمّي!!




في مثل هذا اليوم الموافق ٢٠ من شهر ربيع الأول من العام الماضي ١٤٤٢ه توفيت والدتي الحبيبة الشيخة الدكتورة فاطمة إبراهيم المقرئة بالمسجد النبوي الشريف رحمها الله تعالى.
لا أعرف كيف مر الوقت سريعا هكذا؟!!
لازال بعض إخوتي يخطئ إذا سُئل: متى توفيت والدتك؟ فيقول قبل خمسة أو ستة أشهر.. لا أكثر!!

لقد مرّ عام كامل!.. لكن أحداث ذلك اليوم لازالت ماثلة أمام أعيننا.

لقد تيقنت أن أيام الحزن تمضي ببطئ حتى لو تسارع مرور أيامنا العادية! ، فللحزن زمن مختلف، لا يمضي كما الأيام تجر بعضها بعضا.. وإنما تراه عند البعض يمشي الهوينا ثم يتكئ ويتوقف قليلا ثم يكمل طريقه بذات البطئ وذات الوهن!

والبعض يتوقف بهم زمن الحزن تماما.. فتراهم في المربع الأول للصدمة ولو بعد أشهر وأعوام!
فالله وحده المستعان.

نعم فقد أحد أحبتك موجع لا شك، لكن طول مدة تألمك على فقده تزيد وتنقص بحسبه قربه منك وأهميته في حياتك!.. ومن تجربتي هذه أدركت أن فقد الأم ألم لا ينتهي بمرور الزمن.. فقد تهرم وجراحك بعد لم تلتئم! بل وستكون مستعدا في كل موقف ترى فيه أحدا يفقد أمه أن تتذكر أمك وتبكي فقدك لها حتى تدمي عيناك وتوجع فؤادك!.

لقد مرّ عام على آخر مرة كحلت عيني برؤيتك يا أمي.. لقد مرّ عام على آخر مرة لمست فيها بشرة جسدك الدافئ!
كل شيء حولنا يذكرنا بك، الأشياء والجمادات..
الماضي والحاضر.. حتى أمومتنا لأبناءنا تذكرنا بك في مواقف كثيرة لا تنتهي..  فأنى لنا أن ننساك؟!.. 

ومع اختلاف التاريخ العربي عن الميلادي فإن موعد فراق والدتي بالتقويم الميلادي لم يحن بعد، لكن تطبيقا كتطبيق الفيسبوك لا يفتأ يذكرني بمنشوراتي في مثل هذا الوقت من العام الماضي!
فهذه منشورات أعلن فيها دخول والدتي للمشفى، وأخرى أخبر أحبتها وطالباتها عن جديد وضعها الصحي، وثالثة ورابعة أبتهل فيها لله أن يشفيها.. ومنشور آخر أعلن عن دخولها العناية المركزة، وقريبا سيذكروني بمنشور إعلان وفاتها!
فواحرّ قلباه!! .. ولقد كنت قبل اليوم أتسلى بتذكير الفيسبوك لي بمنشوراتي في الأعوام الماضية لكني اليوم لم أعد كذلك! فتفاصيل الألم موجعة حد الانهاك.. فياليتهم يدركون ذلك!

وقد كان ممن هيج علينا الأحزان خلال هذا العام هو يوم مناقشة رسالة الدكتوراه الخاصة بوالدتي مناقشة رمزية غيابية بعد وفاتها.. يومها كانت مشاعري متضاربة إلى حد بعيد، حتى أنها من المرات النادرة في حياتي التي يزاحم الحزن فيها الفرح بهذا العنف، حتى أنهما كان يقتتلان، وفي بركة الدماء التي تحت أقدامهما كنت هناك أتابع المعركة بضياع وأنا أستمع إلى إعلان نتيجة المناقشة ونيل والدتي درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى!.

لقد مر عام بطوله وعرضه وأحداثه التي لا تنتهي.. تجلى لنا فيه دروس وعبر، لعل من أبرزها أنه مهما كان ارتباطك بأمك واستئناسك بدعائها لك في كل مفصل من مفاصل حياتك ؛ حتى أنك حين توسدها التراب تشعر بالوحشة والضياع .. فاعلم رعاك الله أن الذي رزقك بها وألهمها الدعاء لك باق لا يموت! فوثق علاقتك بالله دون واسطة، وناجي ربك في النوازل وقل: يارب قد كنت ترحمني بدعاء أمي لي، واليوم أمي وديعة لديك!.. وأنا هنا بلا أم، غير أن لي رب رحيم، برحمة واحدة من أصل تسعة وتسعين رحمة جعلها بيننا رحمتني أمي ورحمتُها، بل وتراحمت الخلائق كلها، فكيف بالتسعة والتسعين جزءا ؟! 

فاللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، اللهم واغفر لنا ولوالدينا وارحمهما كما ربونا صغارا، اللهم أبدلهما دارا خيرا من دارهما واهلا خيرا من اهلهما، وادخلهما الجنة وأعذهما من عذاب القبر ومن عذاب النار، اللـهـم عاملهما بما أنت أهله ولا تعاملهما بما هما أهله، اللـهـم و آنسهما في وحدتهما وفي وحشتهما وفي غربتهما، وأنزلهما منازل الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا، اللهم واجبر كسر كل قلب فقد حبيبه، واجمعنا بأحبتنا وذرارينا في جنات النعيم على سرر متقابلين، واجعلنا من أهل هذه الآية ﴿وَالَّذينَ آمَنوا وَاتَّبَعَتهُم ذُرِّيَّتُهُم بِإيمانٍ أَلحَقنا بِهِم ذُرِّيَّتَهُم وَما أَلَتناهُم مِن عَمَلِهِم مِن شَيءٍ كُلُّ امرِئٍ بِما كَسَبَ رَهينٌ﴾.



الأربعاء، 30 يونيو 2021

المقعد المجاور لي في القطار!

أثناء تصفحي في وسائل التواصل الاجتماعي وجدت منشورا لإحدى الفتيات تحكي عن تجاربها في الحياة فتقول: "ولا يزال الشخص صديقا لك حتى تنتهي مصلحته وحاجته، ومتى انتهت تلك المصلحة فلا تعجب إن فقدت أثره وانقطع عنك خبره.." 
فشدني ألمها وتوجعها واتهامها للناس حولها بالخيانة والأنانية والكذب، وتمنيت فيما لو أنها نظرت للأمور من زاوية أخرى، فلعلها تكون أخف وطأة وحدة من الزاوية الحزينة التي تقوقعت بها، فكتبت معلقة على منشورها:

عزيزتي.. أفهم الحياة بشكل مغاير عنك بعض الشيء، وفهمي هذا يريحني في هذا الموضوع بالذات. فحياتنا رحلة قصيرة في قطار سريع، وحول القطار قطارات أخرى، وتحتها مسارات مختلفة. بعض القطارات تلتقي ببعضها حين تتوقف في المحطات، ثم تتفرق ثانية! والناس في حركة نزول وصعود مستمر.

هذه هي الحياة ببساطة! هناك الكثير من المقاعد الفارغة حولي وحولك، وجلوس أحدهم في المقعد المجاور لي أمر يؤنسني، لكن الجميل أن أتفهم جيدا أنه لا يلزم الجالس بجانبي أن يستمر معي في ذات المقطورة حتى لو كان من أقرب الناس لي (كوالد ووالدة وأخ وأخت أو زوج وولد)، فمصالح كل منا قد تتعارض وتختلف يوما، فيحتاج للنزول ليستقل قطارا آخر يوصله إلى مبتغاه، وقد أضطر أنا لفعل ذلك!.
إن إدراكي لهذا الواقع يا عزيزتي لا يجعلني أتوقع الكثير من الآخرين بفضل الله، بل يجعلني ممتنة للمدة الجميلة التي قضوها معي وقضيتها معهم، وممتنة لتلك الذكريات التي تركوها في جعبتي. كما أن إدراكي لهذا الواقع يجعلني ألتمس الأعذار للآخرين دوما، فليس خائنا ولا ناكرا للجميل ذاك الذي اختلفت خطط سيره عن خطة سيري فاضطر للنزول! وليس من الحكمة أن أبكي على أحدهم بجزع وحزن ويأس.. خاصة وأن أعمارنا قصيرة، وثمة لقاء أبدي في مكان سرمدي ينتظرنا هناك في ضيافة الرحمن بمشيئة الله.
فلم الاستوحاش والقلق؟ ولم الشعور بالتعرض للخيانة والظلم؟ لم نحزن على تنكر الأصدقاء وانشغالهم عنا؟ فالأمر أبسط مما نظن ونخمن، لأن رحلتنا في الحياة أقصر مما نتوقع، والمسافر الفطن ينبغي ألا يشغله سوى الوصول إلى هدفه ومبتغاه بسلام وأمان.

 حفصة اسكندراني

الأربعاء، 28 أبريل 2021

كيفَ كَانَ النَّفَسُ الأخيرُ يَا أمّي؟


إذا فُجِعتَ بفقدِ أحدِ والديْكَ تتوقفُ أكوانُكَ عن الدورانِ، وتتهاوى نجومُ سماءِكَ، وتتصدعُ أركانُكَ، حتى أنكَ لتبصرُ الصدعَ وهو يزحفُ نحو كيانِكَ، فيخترقَهُ زحفًا نحو روحِكَ، ليُحدِثَ شقوقًا وجروحًا عميقةً فيها، ولا تزالُ في حالةَ ذهولٍ من هولِ الصدمةِ، فلا تعلمُ هل أنتَ في يقظةٍ أم في منامٍ؟ وهل استوعبتَ ما قالوه أم أنكَ عاجزٌ عن السمعِ والبصرِ فضلاً عن الاستيعابِ؟!، فثمة أستار تُسدَلُ أمامَ ناظريْكَ، تحولُ بينَكَ وبين رؤيةِ ما حولَكَ، وإذْ بالمسافاتِ التي تُبصرها تفرغُ من كلِّ شيءٍ، وفي ركنٍ قصيٍّ من ذلكَ الفراغ ترى الطفلَ الذي بداخلِكَ يجري هنا وهُناكَ في اضطرابٍ وقلقٍ، طفلٌ بائسٌ أشعثٌ باكي العينينِ، قد أضاعَ يدَ الحنانِ التي كانتْ تُمسِكُ بهِ، وهو لا يعلمُ إلى أيِّ اتجاهٍ يفرُّ؟

صدقني سيصرخُ الطفلُ الذي بداخِلكَ أولًا، وسيبكي بحرقةٍ فقدَ الأبِ أو الأمِّ قبلَ أن تتجاوبَ دموعُكَ أنتَ مع الحدثِ، سيصرخُ الطفلُ وينهارُ أمامَ ناظريْكَ في ذلكَ الفراغ، حتى أنّكَ ستسمعُ نحيبَهُ قبلَ نحيبِكَ، وستشفقُ على ضياعِهِ قبلَ ضياعِكَ، وستبكي على واقِعِهِ قبلَ واقعَكَ. 

فما أشدَّ هذا الشعورُ، وما أفتكَ ذلكَ الفقدُ!

هذا جزءٌ مما شعرتُ به حينَ فقدتُ والدتِي ـ رحمَها اللهُ ـ قبلَ ما يقربُ من أربعةِ أشهرٍ، ومنذُ ذلكَ الوقت وأنا أطببُّ نفسي وأداوِيها، حتى أقوى على إمساكِ القلمِ ثانيةً، فحقٌ على قلمٍ سالَ بمقالاتٍ عدةٍ في مناسباتٍ مختلفةٍ من حياتي أنْ يُخلِّدَ ذكراها، ولو بأحرفٍ حزينةٍ بالكاد تتمالكُ نفسَها لتصطفّ على السطورِ، حتى تحكي جملةً من مشاعري، وتروي طرفًا يسيرًا من ألمِ فقدِها، وواللهِ لولا فضلُ اللهِ عليَّ ورحمتُهُ لما ثَبُتَ الفؤادُ ولا تمالَكَ، فلِلهِ وحدَهُ الحمدُ والمنّةُ، فهو الذي يُنزِّلُ برحمتِهِ مع البلاءِ صبرًا يهوِّنُ وَقْعَهُ، ولطفًا يخففُ وطأتَهُ. 

وإنِّي يعلمُ اللهَ قد بدأتُ هذا المقالُ منذُ شهرينِ أو يزيد، غيرَ أنِّي لم أقوَ على إكمالِهِ، وحينَ أتى شهرُ رمضان المباركِ ـ وهو أوّلُ شهرِ رمضان لي في الحياةِ بدونِها ـ حاولتُ جاهدةً أن أتمالكَ نفسي لأدوِّنَ مشاعري لحظةَ وفاتِها، ولكي أفصح عنِ التساؤلِ الذي لطالما أردتُ سؤالها عنه منذُ رحَلَتْ: تُرى كيفَ كان النّفَسُ الأخيرُ يا أمِّي؟ 

وقبلَ أن تتعجبَ يا قارئِي من سؤالي هذا فإنّ لهذا التساؤلِ قصةُ حدثتْ قبيلَ وفاةِ والدتي الحبيبةِ، فقبلَ شهرٍ من وفاتِها تقريبًا، كنتُ أنا وهي مع زوجي في سيارتِهِ متوجهونَ إلى مكانٍ ما، وقد تطرقنا لحديثِ الساعةِ آنذاكَ وهو مرضُ كورونا وآثارِهِ على الناسِ من حولِنا، وقد كانتْ والدتي رحمها اللهُ في أتم صحة وعافية، وكانت تُحسِنُ التوكّلَ على اللهِ، ولا تُظْهرُ جزعًا أو خوفًا من ذلك الوباءِ، غيرَ أنَّها في ذلكَ اليومِ بالذات أبدَتْ قلقَها من هذا المرض فقالتْ: مشكلةُ هذا المرضُ أنه كما قالوا يُصيبُ الجهازَ التنفسيَّ، وأيُّ مرضٍ يصيبُ الجهازَ التنفسيَّ يُقلِقُني!. 

قالتْ هذا لأن لديْها ضيقٌ في مجرى التنفسِ حذَّرها الأطباءُ منه، حتى أنّها لتغصُّ في حباتٍ قليلةٍ من الأرزِ، وأحيانًا تغصُّ بلا سببٍ، ثم تحاولُ استعادةَ أنفاسَها بعدَ ذلكَ بصعوبةٍ، لذا فخوفُها ذلكَ كان له ما يبررُه، لكنها فاجأتْني حينَ أضافتْ:
دائما ما أفكرُ في صعوبةِ النفسِ الأخيرِ في هذهِ الحياةِ، حينَ أحاولُ أخذَ الهواءِ ولا أستطيعُ، وأحاولُ عبثًا فلا أستطيع.. فياربِ هوِّنْ عليَّ النفسَ الأخيرَ وصعوبتهُ، وأخرجنا منها على خيرٍ!

لأوَّلِ وهلةٍ صُدمتُ من كلامِها، غيرَ أنِّي سمعتُ نفسي أرددُ مع زوجي عباراتٍ تقليديةٍ تقالُ في هذا المقام: سلّمكِ اللهُ من كلِ سوءٍ.. بعدَ عمرٍ طويلٍ.. حفظكِ اللهُ لنا.. الخ. 

وبعدَ أن أنهيتُ عباراتي شعرتُ أن كلامي كان سطحيًا لأبعدِ حدٍ مقارنةً بعمقِ عباراتِها وما تحملُه من قلقٍ عميقٍ، فوجدتُ نفسي أكملُ بعد صمتٍ يسيرٍ وكأنَّ اللهَ يُلهمني ما أقولُ: وبعيدًا عن عباراتِ المجاملةِ التي أسمعنَاكِ إيَّاها.. تعالي نتحدثُ قليلًا عن النفسِ الأخيرِ، باللهِ ما الذي يخيفُكِ من نفسٍ بعده ستلقينَ اللهَ تباركَ وتعالى؟ إنّهُ نفسُ السعادةِ ذاكَ الذي نلقى بعدَهُ أرحمَ الراحمينَ، إنه أجملُ نفسٍ وأهنأُ نفسٍ، إنهُ نفسُ الطمأنينةِ والسرورِ! 
ثم تابعتُ حديثي قائلةً: هبي أنّ انسانًا لم تلتقيهِ من قبل، وبينَك وبينَهُ مسافاتٍ، لكنهُ اعتادَ أن يرسلَ إليكِ كلَ عامٍ بهديةٍ تسعدُكِ وتبهجُكِ، ثم تيسَّرَ لكما بعد زمنٍ أن تلتقِيا، فكيفَ ستكون سعادتِكِ بلقاءِهِ؟؟ وكيف سيشتعلُ حماسُكِ لشكرهِ وجهًا لوجهٍ؟ 
فكيف بملكِ الملوكِ الذي ينعمُ علينا سنواتِ عمرِنا كلِّه، ويغدقُ علينا بعطاياهُ مذُ وُلدنا وحتى يومنا الحاضرِ، وهو مَنْ وهبنا الصحةَ والعافيةَ والمالَ والجمالَ والذريةَ، وغيرِها من الهباتِ، ونجَّانا من الكثيرِ من الحوادثِ والمصائبِ، وهو الذي شغلَك بتعليمِ كتابِهِ وجعلَكِ بمنِّهِ وكرمهِ من مقرئات المسجد النبوي.. فأيُّ لقاءٍ أجملَ من لقاءِ ملكِ الملوكِ؟ وأيُّ سعادةٍ تلك التي ستشعرينَ بها في ذلكَ النفسِ الأخيرِ الذي يقلقُكِ؟ إنّما ذلكَ القلقُ وهذا الخوفُ (منَ الشيطانِ ليحزنَ الذين آمنوا وليس بضارِهم شيئاً إلا بإذنِ اللهِ وعلى الله فليتوكلِ المؤمنونَ).. فأبشري بالخيرِ يا غاليةَ، فمَنْ أحبَّ لقاءَ اللهِ أحبَّ اللهُ لقاءَهُ، وفي الحديثِ القدسيِّ: (أنا عندَ ظنِّ عبدي بي)، وإنَّا واللهِ لنظنُّ بربِنا خيرًا، وأنَّ النفسَ الأخيرَ الذي يعقبُهُ لقاءُنا به هو أروعُ لحظةٍ في حياتِنا.. أطالَ اللهُ عمرَكِ على طاعتِهِ ورزقنا وإياكِ حسنَ الختامِ. 

حينها تمتمتِ الوالدةُ بعباراتِ تفاؤلٍ لا أذكرَها، غيرَ أنَّها كانتْ سعيدةً بما سمعتْ، حتى لكأنَ وجهُها أضاءَ بشرًا وطمأنينةَ بعدَ تلكَ الكلماتِ.. فاغتبطتُ حينها بذلكَ، وما كنتُ أدري أنّها ستُصابُ بوباءِ كورونا بعدَ حديثِنا هذا بأيامٍ معدوداتٍ، ثمّ بعدَ إصابتِها بعشرةِ أيامٍ أُدخِلَتِ المشفى، ثم العناية المركزةِ، ولا نملكُ دليلًا حتى يومِنَا هذا على أنّها كانتْ بحاجةِ لدخول المشفى فضلًا عن العنايةِ المركزةِ، نعم لقد شخَّصَها الأطباءُ منذُ أوّلِ لحظةٍ بالتهابٍ رئويٍّ حادٍ تحتاج معه إلى أجهزةِ أكسجين!، لكنَّها ويالَ المعجزة لم تكنْ تشكو من ضيقِ نفسٍ، ولم تصابْ بسعالٍ، ولم تغصَّ من قلةِ الأكسجين، بل كانتْ تشكو من عسرِ هضمٍ طوال الوقتِ فحسب، فكأنَّ اللهَ تباركَ وتعالى استجابَ دعاءها ذاكَ، فلم تعاني من مشاكلِ التنفسِ التي كانتْ تُقلِقُها، بل ظلَّتْ نائمةً في أصعبِ لحظاتِ مرضِها، خاصةً حين أُصيبتْ رئتيْها بالفشلِ التامِّ، وكذلك في لحظاتِ احتضارِها بسبب جرعاتِ المنوِّمِ التي حقنوها بِهِا، غيرَ أنَّ اللهَ وفّقَ إخوتي وألهَمَهُم وضعَ تسجيلٍ يقرأُ الرُقيةَ الشرعيةَ وآياتٍ منِ القرآنِ الكريمِ قربَ رأسِها طوالَ الوقتِ ودونَ توقفٍ، وذلك بناءً على رغبتِها رحمَها اللهُ، ثمّ وَفقَنَا اللهُ وتناوبنَا في الدّخولِ عليها نُرقِيها باستمرار، وندهِنُ جسدَها بزيتٍ مباركٍ تُلِيَ عليهِ ختماتٍ من القرآنِ، كما وَفّقنا اللهُ لأنْ نقرأَ عليها سورةَ البقرةِ مراتٍ عديدةٍ ونحنُ على يقينٍ أنّها لنْ تعدمِ بركَتَها بإذنِ اللهِ.

 وقبيلَ وفاتِها بساعةٍ أو يزيد تجردتُ من مشاعري كابنةٍ، وقيدتُ عاطفتي في ركنٍ قصيٍّ حين شعرتُ أننا نفقدها، وأنها راحلة من دنيانا، فوقفتُ عند رأسِها أُلقنُها الشهادةَ رغم أنها نائمة، ورحتُ أحدِّثها عن نفسِ السعادةِ الذي تحدّثنَا عنهُ، وأدعو لها بالثّباتِ، وأنْ يحشرَها اللهُ مع منْ أحبّتْ، وأَن يجعلَها من أهلِ البقيعِ كما كانتْ ترجو، وأبشِّرُها بتأمينِ الملائكةِ على هذا الدعاء كما قالَ الحبيبُ المصطفى صلى الله عليه وسلّم، وأحدِّثُها عن كرمِ اللهِ تباركَ وتعالى، وعنْ روعةِ لقاءِهِ، وأقرأُ عليها آياتٍ من القرآنِ الكريمِ، وأودِّعُها وأستودِعُها اللهَ الذي لا تضيعُ ودائعَهُ، وكنت على يقين أنها تسمع وتعي كلامي، وبُعيدَ ذلكَ فاضتْ روحُها الطيّبة لبارئِها مع أذانِ فجرِ يومِ الجمعةِ العشرون من شهرِ ربيعٍ الأولِ لعامِ ١٤٤٢هـ، الموافق السادسِ من شهر نوفمبر لعام ٢٠٢٠م، وقدْ أحدَثَ نبأَ وفاتِها صدمةً مُزلزِلةً لإخوتي وأُسَرِهِم، وسبّبَ حزنًا كبيرًا بين أهلِ القرآنِ في مدينةِ رسولِ اللهِ صلّى الله عليهِ وسلّمَ.

ورغم الرُؤى والبُشرياتِ التي تُرى لها وتتوالى علينا عن سعادتِها في حياةِ البرزخِ، وأنَّها لازالتْ تُقرِئُ القرآنَ كما اعتادتْ، وأنّها حيّةُ لم تمُتْ، إلا أنّني وددتُّ بكلِ كياني لو سألتُها ذلكَ السؤالُ الذي يشغَلُني: تُرى كيفَ كانَ النفسُ الأخيرُ يا أمّي؟، فأنا اليومَ في أمسِّ الحاجةِ إلى سماعِ ذلك.

رزقنَا اللهُ وإيّاكُم العملَ لأجلِ ذلكَ اليومِ، ورزقنا حسنَ طاعتِهِ وحسنَ عبادتِهِ، وختمَ لنا حياتَنا بالطمأنينةِ والرضوانِ، وإني لأسأله تبارك وتعالى أن يرحمَ أمّي وأبي برحمتِهِ التي وسعتْ كلَّ شيءٍ، الّلهم ارحمَهما كما رَبَّوْنا صِغارًا، الّلهم إنهُما قد نزلا في ضيافَتِكَ وأنتَ أكرمُ الأكرمينَ، الّلهم أنِرْ قبرَهما، وآنِسْ وحشَتَهُما، واجعلِ القرآنَ رفيقَهُما، واجمعنا بهما في فِردوسِ جنّتِكَ برحمتِكَ يا أرحمَ الرّاحمينَ.

**عن والدتي الأستاذة فاطمة إبراهيم المقرئة بالمسجد النبوي أتحدث.

بقلم حفصة اسكندراني
حرر في ١٥ رمضان ١٤٤٢ه

الأحد، 13 سبتمبر 2020

عزفتْ عن الزواج بعد وفاة زوجها !!


استكتبني أخ فاضل في الرد على امرأة صالحة توفي عنها زوجها وهي شابة، فعزفت عن الزواج بعد وفاة زوجها وفاء له، رغم كثرة خطابها من الصالحين.. فطلب إلي نصحها واقناعها بالعدول عن ذلك. 

 فخطت أناملي لها ولأمثالها ما يلي: 

ما أروع خلق الوفاء وما أنبله!!، وما أروع المتصفين به!!، ترى النفوس تهفو لسماع قصص الوفاء وتأنس برؤية صوره، وتقف باحترام وتقدير أمام أهل الوفاء لسخاء عطاءهم، ونقاء معدنهم، وطيب أصلهم، وكلما كان بين جنبينا قلبا رقيقا ومشاعر مرهفة؛ كلما طربنا بقصص الوفاء في أي زمان كانت، وفي أي مكان حدثت. لأن عواطفنا حين تنبض بحب أحدهم بصدق فإنها تجند القلب والعقل لأجل إسعاده، وبذل كل ثمين في سبيل ذلك. وحين نصاب بفقد هذا الحبيب بموت فإن عواطفنا وقلوبنا - تلك المضغ الرقيقة - تعلن الحداد عليه، فلا عجب أن ترى المحب بعد فقد حبيبه وقد نئا بنفسه عن مباهج الحياة، يعاقب نفسه على فقدٍ لم يكن بيده، فيحاول منع أفلاكه من الدوران حسب ظنه، وهيهات لها أن تتوقف عن الدوران، فسنة الكون أن تستمر الحياة، وتبرأ الجراح، وتجود السماء بغيث مدرار، فتنبت الأرض من بعد جدب، وتتفتح الأزهار ثانية..

 وليس ثمة مشاعر وفاء أجمل من تلك التي تترجم فعلا يصل الى المحب حيث هو فتسعده، ولا سبيل لذلك إلا بالقنوات التي حددها الشرع إذا مات ابن آدم وانقطع عمله، وأما الحداد عليه والحزن ومعاقبة النفس على فقده فلن يصل إلى الميت ولن يسعده. 

 فلأي شيء نكبل أنفسنا عن أن نعيش سعداء نبحث عما يسعدنا ويجعل حياتنا أكثر راحة وهدوءا؟!!

 ألم يأمرنا ديننا ب (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)؟

 أليس ألقاء أنفسنا في براثن الوحدة والمعاناة إهلاك لها؟؟ 

 أليس تكبيل الفؤاد عن مشاعر الحب وأدٌ للروح؟؟ 

 أليس اعلان الحداد الأبدي ظلم للنفس؟؟ 

 ألا يمكن لتلك المرأة التي فقدت زوجها وحبيبها أن تعاود الزواج ثانية وتعطي نفسها فرصة أخرى؟؟، فلنفسها عليها حقا. 

 نعم أوافقها أن نسيان الحبيب الذي مات هو ظلمٌ لذكراه، وكذلك قتل قلبٍ حيٍّ وتعذيبه هو ظلم أيضا، وقد يكون الأخير منهما أشد ظلما وبشاعة من الأول. فلا شيء يحول بين قلب أوجعه طول الحزن؛ وآلمه علقم الفراق من أن ينبض بالحب مرة أخرى سوى الموت، ومادمنا أحياء فلم نتقمص دور الأموات؟!!


 ولو أننا تأملنا في الأمر بمقاييس العالم الآخر؛ ترى هل ينتظر زوجها الذي لقي ربه، وعاين حقائق الموت، ورأى الملائكة، وعاين نافذة من الجنة أو من النار تطل عليه في قبره.. ترى هل ينتظر وفاءها له وبين يديه حياة برزخية يرقب انتهاءها بقيام يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت؟؟.


   وهل يا ترى إذا كتب الله دخول ذلك الزوج للجنة بعد أهوال يوم عصيب وقد رزقه الله فيها عشرات من الحور العين.. ترى سيحزن أو يداخل قلبه ألم لأنه لم يجد زوجته ضمن زوجاته؟!! مع العلم أن الله سبحانه وتعالى بمنه وكرمه قد يخير المرأة بين أحب أزواجها إليها وأفضلهم عشرة لها ليكون زوجها في الجنة (على قول من أقول العلماء في هذه المسألة)، فإن لم يكن الأمر كذلك أو كان هذا القول ضعيفا فإننا نعلم علم اليقين أن الله تبارك وتعالى بعظيم منه وكرمه لا يحزن أحدا على أحد، فهناك حيث الجنان.. لا غل هناك ولا هم ولا حزن، بل أفراح وسعادة، ورضا عن الله وعن النعيم الذي خص به عباده في جنات النعيم. 

 ولو أن وفاء المرأة لزوجها المتوفى عنها - بكونها تمنع نفسها من الزواج بعده - يعد من المكرمات لما فات ذلك نساء خير القرون (الصحابيات)، ولتواصين على فعل ذلك، ولكن هذا لم يحدث، ودوننا التاريخ يشهد، فسير السلف لم تفتأ تحكي عن صحابيات مات عنهن أزواجهن فتزوجن بعدهم بآخرين. هذا لأنهن استوعبن أن الحياة الدنيا إنما هي ممرّ تحفه الابتلاءات، يأخذ بنا نحو الآخرة، وأن هدف كل واحدة منهن هو أن تحسن لنفسها في هذه الرحلة بعبادة الله وطاعته، وعليه فإن كل ما يؤنسها الله به من رفيق وحبيب في هذه الرحلة سواء أكان زوجا أو ابنا أو أبا أو أخا فهو نعمة من الله، ولن تتوقف الحياة ولن تفشل بفقدهم أو فقد أحدهم، لذا فهي تنظر في أمر نفسها بعقل وحكمة، فإن رأت أنها بحاجة لرجل يعينها على الوصول إلى هدفها الأسمى وهو مرضاة الله؛ فعلتْ، ولم تتشدق حينها بعبارات وطقوس الوفاء التي لا فائدة للميت منها. 

 وحقيقة لو أن لمنع المرأة نفسها من الزواج فضل أو عظيم أجر أو مصلحة في الدنيا ورفعة في الآخرة؛ لدلنا على ذلك المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، ولنبهنا - معشر النساء - على ذلك، فهو يقينا لم يفته خيرا إلا أرشدنا إليه ودلنا عليه. 

 يبقى الأمر الأهم من وجهة نظري هو: ألا تقدم أي امرأة توفى عنها زوجا تحبه على الزواج حتى يتأكد لها أنها بحاجة حقيقية لمن يستكمل معها مشوار الحياة ليكون لها سندا ومعينا، سواء كانت وحدها أو كان لها أبناء بحاجة لأب يأخذ بأيديهم وينفق عليهم ويرعاهم، ولتعلم - رعاها الله - أن التمهل والتأني في الاختيار مطلب لا تنازل فيه ولا مجاملة، فلا مجال من وجهة نظري للقبول برجل أقل نبلا وخلقا وكرما وصلاحا من الرجل الذي فقدته، فإما زواجا مدروسا متكافئا يعينها على العيش براحة بال لتتفرغ لطاعة الله وحسن عبادته؛ وإلا فلتبق على حالها، فأرملة وحيدة حزينة منشغلة بعبادة الله خير عندي من امرأة شقية تعيسة بزوج يكدر عليها صفو حياتها، ويفسد عليها دنياها وآخرتها، ويشغلها عن طاعة الله وحسن عبادته. 

 والله الله في الدعاء وكثرة اللجوء إلى الله تبارك وتعالى بأن يرزقنا وإياكم خيري الدنيا والآخرة، وأن يلطف بنا ويرحم ضعفنا، ويسترنا بستره الجميل حتى نلقاه وهو راض عنا غير غضبان.

 هذا ما لدي من نصح لهذه المرأة.. وأسال الله أن يوفقها للخير ويعينها على طاعته وحسن عبادته. بنت اسكندراني

الأربعاء، 10 يونيو 2020

وتَلَكَّأْتُ هُنَيْهَة.. (مشهد يختزل أحداثي زمن كورونا)

حينَ مدتْ يدها لتتكئَ عليَّ؛ تلكأتُ هُنَيهة!!، وهالني أنّي تلكأتُ، وظلّ تلكؤي هذا جاثما على صدري، يؤلمني ويقضّ مضجعي كلّما تذكرتُه. ألا قاتلَ اللهُ ذلك (الفايروس) وما صاحَبه من إرجافٍ وقلقٍ! ألا قاتلَ اللهُ جبني وخوفي وهواجسي، التي جعلتني أحارُ لثانيةٍ في الاستجابةِ ليدِها الممدودة لي، وقد كانت ترجو أن أعاونها في اعتلاءِ درجاتٍ مرتفعةٍ من الرخامِ المطلِّ على بقيعِ الغَرْقَدِ في مدينةِ الحبيبِ المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.

 كانتْ مكْلومَةً حزينةً لفقدِ أخيها، تُتمتمُ بالدعاءِ له تارةً، وتشهقُ بالبكاءِ عليه تارةً، تحدّثهُ بعباراتِ الوداعِ، وتحكي له عن لوعةِ الفراقِ، ثم تهنّئهُ بحسنِ الخاتمةِ، وتيسيرِ الدفنِ في هذا المكان المباركِ، وهذا الزمان المباركِ (رمضان)، وكأني بها تخالُه يسمعُها، وينصتُ لهمهماتِ حديثها، ويتألمُ لبكائِها، ويتلقى تهنِأتَها بغبطةٍ، بل ويبادلَها عباراتِ الوداعِ.

 وتحتِ أشعةِ الشمسِ الحارقةِ في نهارِ رمضانَ في اليومِ التاسعِ عشرَ من أيّامهِ المباركةِ.. وأمامَ أسوارِ البقيعِ؛ اعتليتُ درجاتِه المرتفعةِ بعد أن خرجنا من مغسلةِ الأمواتِ، وصلى الرجال في المسجد النبوي على الأموات، فوقفتُ هناك لأنظرُ في أيِّ اتجاهٍ وإلى أيِّ بقعةٍ ستتجهُ جموعُ الرجالِ الذين يحملونَ جسد خالي الحبيب (رحمهُ الله)، وبينما كنتُ أتأملُ بهيبةٍ تلك المساحاتِ الخاشعةِ الممتدةِ من ثرى دنيانا وحتى الآخرة؛ إذ بها تناديني وقد مدَّتْ يدها لي - دون قُفازٍ - كي أسحبَها لتصعدَ بجواري!.. فتلكأتُ حينَها!!، نعمْ تلكأتُ عن التقاطِ يدِها، والمبادرةِ في مدِّ يدِ العونِ لها، وللأسف هي لم تكنْ أيَّ نكرةٍ من الناسِ حتى أتغاضى عن الاستجابةِ لها، وإنما هي كانتْ والدتي الحبيبة!!!، لا أدري تحديدا ما الذي جعلني أتجمدُ في مكاني للحظاتٍ؟!!، هل لأني توقفتُ عن مصافحتِها واحتضانِها وزيارتِها مُذْ بدأتٍ الأزمةُ، وذلك لخوفٍ مني عليها بناءً على التحذيراتِ الطبيةِ؟؟، أم أنني تلكأتُ حين تذكرتُ انتشارَ الوباءِ بين أهلِ المدينةِ؛ وبالأمسِ القريبِ أصيبَ به أحد إخوتي مع جميعَ أفرادِ أسرتِه، ولازالوا حتى تلكم اللحظة في الحجر الصحي؟؟ أم أنني تلكأتُ لأني أسكنُ في نفسِ المبنى الذي يقطنُ فيه أهلُ زوجي وأخالطهم يوميا، ولأجلِ ذلك أخشى أن أخالطَ أحدا خارجَ المنزلِ - كما يحذرُ الأطباءُ - فأعودُ إليهم بما يسوءَهم لا سمحَ اللهُ؟؟

 وأياً ما كانتْ الأسبابُ والمبرراتُ التي جالتْ برأسي حينها؛ وأيا ما كانتْ درجة منطقيتِها؛ فالمحصلةُ هي أنني قد تلكأتُ عن جذبِ اليدِ المباركةِ التي مُدّتْ لي لثوانٍ عدةٍ، هذه هي الحقيقةُ الوحيدةُ التي تعنيني وتؤلمني بين هذه الأسطرِ، فذاكرتي مذ وعيت على الحياةِ لا تحملُ موقفا واحدا ترددتْ فيه هذه اليدُ الحانيةُ عن مساعدتي وحسنِ العنايةِ بي.. فما أشدُّ لوعتي!

 وبعدَ مرورِ عددٍ من الثواني على وضعي المتجمدِ ذاك.. وقبلَ أن تسحبَ والدتي الحبيبةُ يدها كسيرةً حزينةً؛ حسمتُ أمري وهويتُ إلى حيثُ تقفُ، لأجعلَ من كتفي متكأً لها، ومن ذراعي عصا تستندُ عليها، فاتكأتْ - رعاها الله - عليَّ وصعدتْ (دون الحاجة للملامسة)، لتطلّ على القبورِ فتودّعَ أخاها الحبيب رحمهُ اللهُ تعالى وأحسنَ مثواه.

 وهكذا طُوِيَ المشهدُ على تلكَ التلّةٍ، لكنه لم يطوَ داخلي مذ ذلكَ الحين، ولا أدري هلْ أدركتْ والدتي تلكؤي وقرأتْ فيه شيئا من مخاوفي؟ أم لم تنتبه لذلك البتّة؟ لكني أنا من رصدتُ تلك اللحظاتِ الموجعةِ، والتقطتُ لها تسجيلا مفصلا في ذاكرتي، اختزلَ كلَّ ما مرَّ بنا من أحداثٍ في زمن كورونا، حتى أنه استفزَ قلمي، فجَرتْ أحباري تحكي تلكؤي وترددي في ذلكَ الموقفِ، بل حتى تصرفي وتحايلي على لمسِ يدِها.. آلمني وأوجعنَي، فلو كانتْ هي مكاني ومددتُ لها يدي أطلبُ عونَها؛ لما ترددتْ ثانيةً في التقاطِ كفي بكل حنانٍ وترحابٍ، فواحرّ قلباهُ!!، لقد زعزعتنا المخاوفُ وتلاعبتْ بعقولِنا، ثم لازالتْ تزحفُ شيئا فشيئا حتى عبثتْ بعواطفِنا، ففرّقتْ بين الأحبةِ، وصنعتْ بينهم سياجا لا مرئيا من التوجسِ والقلقِ، وسواءٌ أكان ذلك باسمِ الأنانيةِ والخوفِ المبالغِ فيه على النفسِ، أو كان بدافعِ المحبةِ والحرصِ على سلامةِ الآخرين؛ فالصورةُ الخارجية للأسف لا تبدو مختلفةً كثيرا!.

 لطالما أردتُ في هذه النازلةِ التي ألمتْ بنا تدوينَ جملةً من مشاعري في مواقفَ مختلفةٍ، لطالما أردتُ الكتابةَ عن نوباتِ القلقِ التي تقضمُ راحتنا وتعبثُ بطمئنينتِنا كلما تابعنا - عن كثبٍ - مستجداتِ هذا الوباءِ عالميا، لطالما رغبتُ في الكتابةِ عن حالاتِ التقوقعِ الأسريِّ التي اضُطررنا لها.. عن ايجابياتِها وسلبياتِها، عن مشاهدَ رائعةٍ منها، وأخرى ساخرةٍ، وكم هممتُ بالكتابة عن مشاعري الحزينةِ حين أُغلقتْ المساجدُ، وحين حُرمنا من الصلاةِ في المسجدِ النبويِّ لشهرين ونصفِ الشهرِ تقريبا خاصة في شهرِ رمضانَ، أردتُ كذلك أن أُسيلَ مدامعي مداداً أدوّنُ به حزني على رؤيةِ صحنِ الكعبةِ المشرّفةِ وهو خاوٍ من الطائفينَ، بصورةٍ تُدمي الروحَ وتؤلمُها، وتوجعُ القلبَ وتمزقه، فكأنَّ نصلا حادا قد غُرسَ في جسدي، وأنَّى للألمِ أن يتوقف إلا بنزعِه، وعودةِ الزحامِ إلى ذلكَ الصحنِ المباركٍ.

أردتُ الكتابةَ أيضا عن العجزٍ والقهرِ الذي انتابني وأنا أقفُ على بعدِ أمتارٍ من أخي وزوجته وأطفالهما في حجرِهم الصحيّ، أنظرُ إليهم وينظرون إليّ، نبتسمُ بألمٍ، ولا يجرؤُ أحدُنا على الاقترابِ من الآخرِ، حتى الصغارُ تراهم وقد كُبِّلتْ طفولتهم وعفويتهم في احتضان أحبتهم.. فإذا بهم تماثيلَ كئيبةٍ متحجرةٍ، أردتُ بقوةٍ أن أُجري قلمي وأنفسُ عن مشاعري الثكلى الأيامَ التي تلتْ حالةَ الوفاةِ لألقي الضوءَ على رحمةِ الله بنا؛ إذْ شرعَ لنا العزاءَ نواسي به بعضنا البعض، لا أنْ ينزَوٍي أهلُ الميّتِ فُرادى؛ كلٌ يجابِه الأحزانَ ومرارةَ الفقدِ وحدَهُ، دونَ أن يجدَ صدرا ينبضُ بنفسِ أوجاعٍه وألمِه ليضمُه إليه ويهَدْهِدَهُ، فيخففَ عنه مصابَهُ، ويحملَ عنه شيئا من أثقالِ روحٍه، وتلك نعمةٌ لم ندرك أهميتَها حتى اكتوينا بالحرمانِ منها.

 ورغمَ رغبتي في تدوينِ مشاعري في كلِ هذه الأحداثِ؛ فقد اختزلَ موقفُ تلكؤي عن التقاطِ يدِ والدتي الحبيبة كلَّ المشاعرِ وفاقها، حتى ابتلعَ جميعَ تلك الأحداثِ.. حزينها وسعيدها، فكم هو مؤلمٌ أن يحولَ شبحٌ لا مرئيٌّ بينك وبين احتضانِ أحبتِكَ وملامستهم، شبحٌ ذو حجمٍ تافهٍ مقارنةً بحجمِ الدمارِ النفسيِّ والتباعدٍ الإنسانيِّ الذي أحدثَهُ في المجتمعات، فلا أنتَ تراه فتنازله وتحاربه، ولا أنتَ تعلمُ من أيِّ بابٍ يأتيكَ فتتجنبًهُ، فسبحانَ اللهِ العظيم الذي أرادَ أن يؤدّبَ عبادَهُ، ليريهم كيف يختلُّ توازنُ حياتهم، وتنهارُ نُظُمُ معيشتِهم، وتعجزُ قوتُهم وجميعُ إمكانياتِهم، وتحارُ عقولُهم وتفزعُ قلوبُهم من مخلوقٍ صغيرٍ كهذا، لا يكادُ يرى بالعينِ المجردةِ.

 لقد أزالَ هذا الفايروس عن أعينِنا غشاوةً تلو غشاوةٍ، وأزاحً حجابا إثرً حجابٍ، فإذا بنا نُبصرُ نعمَ الله المحلّقةِ بنا، والتي - وإن ابتلينا بفقدِ بعضِها - فقد بقي لنا منها مدَّ البحار نعما؛ لا يُعدُّ قَطْرُها ولا يُحصى، وقد زانَها وتوَّجَها: لطفَ اللهِ الذي داوانا بشهرٍ رمضانَ المباركٍ في هذا التوقيتِ العصيبِ بالذات، فطابتْ فيه أرواحٌ وأرواحٌ، وتخففتْ فيه القلوبُ مما لحقها من حزنٍ وشتاتٍ، وقلقٍ وانكساراتٍ، فلله الحمدُ والمنّةُ.

 جعلنا اللهُ وإياكم من الشاكرينَ الذاكرينَ القانتينً، وغفرَ لنا ولوالدِينا وأزواجِنا وذرياتِنا وأحبتٍنا وجميعِ المسلمين، وعافانا وإياهم من كلِّ سوءٍ ومكروهٍ.