الثلاثاء، 27 مارس 2018

قَالَتْ: أُرِيدُ الصَّبْرَ عِنْدَ الصَّدْمَِة الأُولَى مِنَ البَلَاءِ!!..

قالت: أريد الصبر عند الصدمة الأولى من البلاء!..

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وصحبه ومن والاه.. أما بعد

فقد سألني من يحسن الظن بي: كيف أصبر عند الصدمة الأولى؟، فكدتُ أحجم عن الإجابة، فبضاعتي في هذا الباب مزجاة، والله وحده يعلم ما بي من ضعف إيمان، وقلة يقين، فلست أهلا للإجابة عن هذا السؤال، ولا أهلا للتصدي لمثل هذه المسائل، خاصة وأن أهل العلم قد تناولوها وبينوها للناس، ففي عالم الانترنت عشرات المواقع والمقاطع التي تتحدث عن ذلك، فمن أنا لأُسأل عن مسألة كهذه؟، ومن أنا كي أجيب؟، غير أني ورغم هذا كله استحييت رد السائلة التي لا أعرف حتى اسمها، فحتما لم يفتها البحث عن مسألتها في الانترنت، ومع ذلك أملت أن تجد عندي ما يروي ظمئها، فأنى لي ردها وقد أحسنت الظن بي، لذا استعنت بالله وكتبت تأملاتي المتواضعة في هذا الموضوع، عل الله أن ينفعني بها وإياها، فكان مما كتبت:

من ينشد الصبر عند الصدمة الأولى من البلاء فلا يظنن أن الصبر يأتيه محض صدفة، أو محض أمنية، بل هو محض توفيق من الله ، فليس كل من تعلم أسباب الصبر تمكن من تطبيقها إذا ما عصفت به ريح البلاء، وليس كل من كتب وألّف ونصح الناس وأرشدهم في هذا الشأن هو مطبق لما يتفوه به، فقد يُوفق المرء للصبر عند الصدمة الأولى من البلاء، وقد لا يُوفق، ولا يستبين الواحد منا من أي الفريقين هو حتى يبتلى ويدخل بنفسه ساحة الامتحان (عافانا الله وإياكم).

ولأن الصبر عند المصيبة ليس وليد لحظته؛ فقد شغلتُ به زمنا؛ أفكر وأتأمل، وأبحث وأنقب، فلابد من خطوات مسبقة على المرء اتخاذها أيام الرخاء، من أجل أن يُوهب بها الصبر والثبات في أولى لحظات البلاء (هذا إن كان في مقادير الله له أن يُبتلى، وإلا فالأصل أننا لا ننتظر المصائب ولا نترقب وقوعها؛ وإنما نسأل العافية من كل مصيبة وبلاء) ولما تبلورتْ تأملاتي تلك أردتُها حبرا على ورق، لأرجع إليها عند الضرورة والحاجة، ولكي أجعلها وصفة دوائية متواضعة لأحبتي ولمن أراد.

إن النفس البشرية إذا ركنتْ إلى النعم التي وهبها الله إياها من صحة وعافية ومال وجمال وأهل وزوج وولد، ثم تشبثتْ بها وتعلقتْ، ولم يَدُر بخلدها أنها عرض زائل يُفقد في غمضة عين، وأنها معرضة لأن تكون مصدر ابتلاء المرء والتنغيص عليه بعد أن كانت مصدر راحته وسعادته.. فلا عجب حينها ألا تتعرف على الصبر مع شدة الحاجة اليها وألا يعرف الصبر اليها سبيلا.
فمن لم يهيئ نفسه على احتمالية الفقد وتقلب الحال؛ جزع عند البلاء وأصابته المصيبة في مقتل، فهو لم يحصن دفاعاته ليوم كهذا، فأنى له الصبر والرضى بينما السخط والجزع يملأ جوفه ويجري في شراينه.

ولعل من الأسباب المعينة على الصبر في صدمته الأولى هي أن يرتب المرء نعم الله في حياته، من الأعظم والأهم إلى الأدنى فالأدنى، ويعود لسانه على مداومة شكر الله عليها في كل وقت وفي كل حين، والغاية من ترتيب النعم أن يكون عقله الباطن على بصيرة من موقع كل نعمة وأهميتها لديه؛ فإذا ما أصابه سهم البلاء عاين موضعه، وقدر حجم الفقد، ومرّ مرورا سريعا على ما بقي بحوزته من النعم ليطمئن على وجودها، فإذا قام بهذه الخطوات كانت ردة فعله الأولى عند المصيبة هي التريث والتأمل، لأنه إنما يقيّم مصيبته أولا، فإذا ما أدرك حجمها وحجم ما بقي له من النعم لم يجزع، ولم يصرخ، ولم تتهاوى الحياة أمام ناظريه، ولم يتدمر الكون في أفقه، لذا تجده هادئ النفس راسخ الايمان، وإذ بلسانه الذي عوده على الشكر؛ قد مارس عادته؛ فإذا به يشكر الله ويحمده، ويحوقل بيقين ويسترجع، فيثير فعله هذا تعجب من حوله، وما دروا أن صبره في الصدمة الأولى ما هو إلا نتاج عمل عقلي وقلبي دؤوب، مارسه في الرخاء، حتى ثبته الله به في الشدة، ومن ألهم الشكر والاسترجاع والحوقلة عند البلاء، فليستبشر برضى الله عنه وبقرب الفرج، فالله كريم رحيم لا يضيع من توكل عليه، ولا يخيب من أحسن الظن به.

وترتيب النعم يختلف حتما من شخص لآخر، لكني أتوقع أن أهم النعم لدينا يشترك فيها الجميع، فنعمة الإسلام تأتي أولا، ويدخل فيها سلامة المعتقد، والسلامة من الفتن، تليها نعمة الصحة والعافية، فمن وجهة نظري أن نعمة العافية تأتي قبل نعمة وجود الوالدين أو الزوج أو المال والولد، فمن فقد صحته لم يهنأ بزوج ولا ولد، بل ولكان عالة عليهم، حتى إنه ليرى نفورهم منه بين أعينهم؛ في حركاتهم وسكناتهم، أو على أحسن تقدير سيرى في وجوه أحبته ما تسبب به لهم من حزن وألم وكدر بمرضه وعلته.
ومن فقد صحته لم يهنأ كذلك بالمال الذي يملكه، حتى إنه ليراه مجرد آلة لتخفيف ألمه، ورشوة لمن حوله كي يظهروا شيئا من الاهتمام المصطنع به فحسب.
وبعد نعمة الصحة تأتي بقية النعم وتتوالى، كلٌ بحسب قلبه وهواه.

وعند ترتيب قائمة النعم وتوزيع أحبتنا عليها حسب محبتنا لهم من الجيد أن نجعل بعد كل مرتبة يحتلها شخص مهم في حياتنا مرتبة أخرى، وهي مرتبة حب هذا الشخص لنا، بمعنى: من رتب نعمة وجود والدته في حياته وحبه لها في المرتبة الثالثة وكان ممن رزقه الله بحب والدته له ورضاها عنه؛ جعل المرتبة الرابعة: حب والدتي لي، فإن حرم حبها ورضاها اكتفى بجعلها في مرتبة واحدة، وهكذا، فنعمة أن يرزقنا الله بوجود شخص نحبه في حياتنا، ونعمة أخرى أن يرزقنا الله حب هذا الشخص لنا، ووضع ذلك في جدول النعم له اعتباره وأهميته، فهو يرتب الذهن ويمنح المرء الحكمة وحسن التصرف في النوازل.
فمن أصابته المصيبة في ماله تذكر في الحال أن المال في ترتيبه هو السابع أو الثامن، فتهون عليه مصيبته، وإن أصابته المصيبة في ولده تذكر ما فوق ذلك من النعم وما تحته، وتذكر أن له من الولد كذا وكذا، وأنه ما أصيب إلا في واحد منهم، وهكذا.
ومن أصيب في صحته تذكر ما بقي له منها، وما فوقها وما تحتها من النعم، ومن أصيب في دينه تذكر ما بقي له من دينه سالما، وما بقي له من نعم لا تعد ولا تحصى في قائمة النعم الخاصة به، فيلهج لله بالشكر، فيحوز بشكره هذا أعلى درجات الصبر.

وثمة فائدة أخرى لترتيب النعم واستحضار ذلك في وقت المصائب، فمن أصابته المصيبة في المال تصبر ليس لأجل نفسه فحسب؛ وإنما لأجل من يحب، فثمة أحبة هنا وهناك هم عنده أغلى من المال، فهو يصبر ويخفي حزنه مرة لأجل نفسه ومرات من أجلهم، حتى لا يصيبهم الجزع بجزعه والحزن بحزنه، لانه باختصار يعرف قيمة ما لديه من النعم.

وللصبر مرارة عرفها بنو البشر في كل زمان ومكان، وعبروا عنها بأصعب وأعنف العبارات كرها لها ونفورا منها، لكن الملفت أن القرآن الكريم قد وصف الصبر بالجمال، وخالف بذلك ما تعارف عليه البشر، فثمة صبر جميل، وصبر قبيح لا جمال فيه!! والقرآن بذلك يعلمنا الصبر الممدوح الذي به تنجو مراكبنا من الغرق ومن عواصف البلاء العاتية، قال تعالى: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا)، اي اصبر صبرا بلا شكوى، ولا سخط ولا جزع، صبر الرضا والتصديق، صبر العزة والاختيار لا القهر والاضطرار، صبرا يورث الثبات والفلاح في الدارين.

إن ادراكنا المسبق واستذكارنا لأنواع الصبر وترتيبنا لنعم الله علينا في حياتنا يجعلنا عند نزول المصيبة في ثبات لا تزعزعه العواصف والأعاصير، وهب أن الواحد منا حين يباغته البلاء قد فاتته تلك التأملات، وأنسته الفاجعة كل ترتيب؛ فليتذكر حينها أنه إنما أعد نفسه للصبر في مثل هذا اليوم، وأن منزل البلاء به هو أرحم الراحمين الذي أغدق عليه بألوان النعم دون استحقاق منه لها، فهل نكفر بنعم الكريم لأجل ابتلاء قدره علينا؟؟، وهل نسخط بما ارتضاه الله لنا كأننا نجهل أن اختيار الله لنا هو خير من كل اختياراتنا؟؟، ألسنا نؤمن أننا في دار ابتلاء؟! فما العجيب اذن لو نزل بنا البلاء وداهمنا؟، ألسنا نبصر الناس حولنا يزلزلون من شدة الابتلاء؟!، وقبلهم الصالحون والأنبياء؟، ألسنا نوقن أن الله يبتلينا لأجل أن يطهرنا من ذنوبنا ولأجل أن يرفع درجاتنا في دار الجزاء؟.. فلم الجزع والسخط؟ ولم الخوف والغضب من رب رحيم حكيم؟، ألم يريينا الله من رحماته ومن حكمته القدر الذي يجعلنا مطمئنين أنه أرحم بنا من أنفسنا ومن والدينا ومن الناس اجمعين؟، وأن حكمته لا يدانيها حكمة مخلوق؟
فلنري الله - أيها الكرام - في شدتنا حسن الثقة به، وحسن التوكل عليه، وحسن الالتجاء إليه، ولنسمعه أصواتنا، ولنتذلل بين يديه بالتوبة والإنابة، ونخضع له بالتسليم وحسن العبادة، ولنكن على ثقة أن الله لن يردنا خائبين، وأنه سيرزقنا طاقة عجيبة من الصبر واليقين، وشحنات من الأنس به ستورثنا سلاما داخليا يتعجب منه الجميع حولنا، لذا فلنحسن ضيافة الابتلاء، فالبلايا - كما قال ابن الجوزى - ضيوف، فلنحسن قِراها حتى تَرحل إلى بلادِ الجزاء مادِحة لا قادِحة.


اللهم إنا نسألك العافية من كل بلاء، فإن كان ولابد فاللهم ارزقنا الصبر عند البلاء، وألهمنا الثبات عن النوازل و الملمات، ووفقنا لرضاك في جميع أحوالنا، وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء.. وصلي اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


بقلمي/ حفصة اسكندراني
حرر  ونشر 10 رجب 1439ه في ملتقى أهل التفسير
https://vb.tafsir.net/tafsir55704/#post283477