الجمعة، 5 ديسمبر 2014

رِسَالَتي لأَهْلِ الأَحْزَانِ والابْتِلاءَاتِ والكُرُبَاتِ


أخي المكروبُ المهمومُ المتوجعُ... أختي الكئيبةُ اليائسةُ الحزينةُ...

أنا لن أبدأَ بسردِ عباراتٍ أنتَ تحفظُها وتسمعُها من كلِ أحدٍ, أنَا لنْ أقولَ لكَ: سيأتي بعد الّليلِ المظلمِ صباحٌ مشرقٌ, وما بعدَ الضيقِ إلا الفرج, وإنَّ بعد العسرِ يأتي يسرٌ على إثرهِ يسر. أنا لن أنشدكَ :
ضاقتْ فلمّا استحكمتْ حلقاتها.....فرجتْ وكنتُ أظنّها لا تفرجُ.
أنا لنْ أقولَ لكَ ذلكَ كلّهُ؛ فلاشكّ عندي أنّك تحفظُ هذهِ العباراتِ عن ظهرِ قلبٍ, وقد سمعتَها مرارًا وتكرارًا. وأنتَ تؤمنُ إيمانًا يقينيًا أنَّ بعدَ كلِّ ليلٍ مظلمٍ يأتي صباحٌ مشرقٌ, لكن ليلكَ طوييييييييلٌ طويلٌ!!. وتؤمنُ أنَّ بعدَ الضيقِ يأتي الفرجُ, لكنّ فرجكَ لم يلحْ قدومه حتى في الأفقِ البعيدِ الذي تُبصره...
لذا لن أحدثكَ عنْ صباحٍ لم يأتِ ولا عن فرجٍ لم يحنْ أوانه بعدُ؛ وإنما أحدّثكَ عن رحمةِ الله التي أقتضتْ أن يتخلّل الليلُ المظلمُ البهيمُ نجومًا بديعةً تومضُ بين الفينةِ والأخرى.
ورحمتُه التي اقتضتْ أن يتخلّل الضيقُ الشديدُ والعسرُ المطبقُ ومضات من الفرجِ تؤنسُ القلبَ وتصبّرهُ.
فهلّا سألتَ أصحابَ الأحزانِ عن ومضاتِ الرّحمةِ التي يرونَها في قمةِ ابتلائِهم ويأسِهم لترقُبها في نفسكِ, وفي كلِّ شيءٍ حولكَ, فلعلّها تُسلّيكَ وتُسعدكَ, وتخففُّ عنكَ كما خففتْ عنهم؟؟؟

ولأجلِ أنْ تقتربَ الصورةُ إلى ذهنكَ أكثر؛ أقولُ:
ألم تقعدْ يومًا صامتًا ساهمًا تشعرُ أنّكَ ضائعٌ قدْ عصفتْ بكَ الهمومُ فبعثَرَتْكَ, تفتقدُ حضنًا دافئًا يَلّمُّ شعثكَ, فإذا بكَ وأنتَ على حالكَ هذه إذ بيدٍ حانيةٍ تطوّقكَ! فإذا به طفلُكَ الصغيرُ يضاحكَكَ! ويَرْتمي في صدرِكَ ويتشبَّثُ بِكَ!. فكأنّها واللهِ ومضةُ رحمةٍ من الرّحمنِ أبتْ إلا أن تباغتَكَ.
ولربّما تكونُ في مسجدٍ أو في مكانٍ عامٍ شاردًا عمّا حولَكَ, هائمًا في أزقةِ همومِكَ وحدكَ, ضائعًا تنشدُ الأمانَ وتنشدُ المعينَ؛ فإذا بيدٍ حازمةٍ تستقرُّ على كتفِكَ؛ فيسري دفئُها فورًا في عروقِكَ حتى يصلَ إلى قلبِكَ, فتَلْتَفِتَ إلى صاحبِها فإذا بشيخٍ مبتسمٍ يشعُّ وجههُ بشرًا وراحةً يسألُك: ما بالُكَ مهمومًا يا هذا؟؟!!... فكأنّما أُلْهِمَ أنْ يكونَ ومضةَ الرحمةِ التي تريحُ قلبَكَ في هذهِ اللحظةِ.

إنّها ـ يا أيّها المحزونين المبتلين ـ ومضاتٍ من الرحمةِ تتنزلُ على أصحابِ الابتلاءاتِ في صورٍ مختلفةٍ, فحينًا يرونَها في:
*ضحكةٍ بريئةٍ من طفلٍ تتسلّلُ لترسمَ بسمةً خاطفةً في أعماقِ قلوبِهم الكسيرةَ, فكأنها تُهَدْهِدُهم وتربّتُ على أكتافِهم.
*أو عبرَ نظرةٍ حانيةٍ مواسيةٍ من حبيبٍ مخلصٍ عُقد لسانَه عنِ الإفصاحِ بمكنوناتِ صدرِه من شدّةِ تدافعِ مشاعرِهِ فكانتْ نظرتُه بألفِ كلمةٍ, وكانتْ لمستُه بألفِ معنى.
*أو عبرَ دمعةِ عجزٍ وقهرٍ تفرُّ من عينِ الأمِّ أو الأبِ أو الأخِ أو الأختِ بعدَ أن أدركوا عجزَهم عن تقديمِ جزءٍ من حظوظِهم من السعادةِ في هذهِ الدنيا لأجلِ عينِ حبيبهم هذا. فتأتي دمعَتُهم كبلسمٍ شافٍ على قلبِ المحزونِ.
وحينًا يرى أصحابُ الأحزانِ ومضاتِ الرحمةِ هذهِ في صورٍ من بديعِ خلقِ اللهِ في هذا الكونِ, فيرونَها تومضُ عبرَ:
*منظرٍ طبيعيٍّ لأمواجِ بحرٍ تتكسرُ, فتتابعُ الموجةُ تلوَ الأخرى, فلا تقفُ عندَ حدودِ شاطئِها حتى تتصلَ بشاطئِ قلبِ هذا المحزونِ فتمدُّه بسحرٍ من أعماقِ البحارِ.
*أو عبرَ مشهدِ انهزامِ فلولِ الليلِ أمامَ إشراقِ الشمسِ المهيبِ على سيمفونيةِ تغاريدِ طيورِ الصباحِ العذبةِ . فيزفُّ المنظرَ له البشرى بأنَّ الليلَ ـ وإن طالَ مكوثَه ـ لابدَّ أن ينجلي.
*أو عبرَ خريرِ ماءِ شلالٍ يصطدمُ بصخورِ الحزنِ في أعماقِه فيتطايرُ عنها في كلِّ اتجاهٍ فيغسلُ قلبًا أرهقَهُ جفافُ الحياةِ وقسوتُها.

ولرُبَّ آيةٍ من كتابِ اللهِ خيرٌ منْ ذلكَ كلِّهِ, فتراها تفعلُ بقلبِ المحزونِ ما لا يفعلُه سوَاها من تلكَ الومضاتِ وِإنِ اجتمعتْ واتّحدتْ. فترى قبسَ نورٍ من رحمةِ اللهِ يشرقُ من آيةٍ يتلوها قارئٌ بصوتٍ شجيٍّ, فتنتقلُ ذبذباتُ الصوتِ عبرَ العروقِ لا عبرَ الآذانِ, فإذا بالقلبِ المهمومِ قدِ انتشى وتخلّصَ من قيودِهِ لبرهةٍ ارتفعَ فيها طائرًا في عالمٍ روحانيٍّ جليلٍ, فلا يعودُ من رحلتِه القصيرةِ تلكَ إلا وقد جلبَ معه دواءً نادرًا لا يوجدُ له شبيهٌ في عالمنا؛ ليُسَكِّنَ بهِ آلامَهُ ويتصبرَ بهِ على بلائِهِ.

فيا أيُّها المحزونُ إذا ضاقتْ بكَ الدنيا فتذكرْ أنْ تسلِّي نفسكَ بتَتَبّعِ ومضاتِ الرحمةِ فإنها تسكِّنُ الألمَ وتُسلي الروحَ, وتعينُكَ على تأمُّلِ نعَمِ اللهِ عليكَ, وهي زادٌ في طريقِكَ الوعرِ الّذي ابتلاكَ اللهُ بهِ. فإيَّاكَ إيَّاكَ أن تغفلَ عنها, وإيَّاك أن تغفلَ عن شكرِ اللهِ عليها, وتذكرْ قولَ اللهِ: ((وَلَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ)), فإذا ما انقضتْ مُدَّتُكَ, وأتاكَ الفرجُ من حيثُ لا تحتسب, وخرَرْتَ ساجدًا للهِ شاكرًا لأنعمِه = فلا تنسَ أن تحدِّثَ المكروبينَ وتسلِّيهم بومضاتِ الرحمةِ التي رأيتَها في ابتلائِكَ, فلعلَّ اللهَ أن يفرجَّ عنهم ويسلِّيهم.
وإياكَ أن تغفلَ عنِ الدعاءِ أو تزهدَ فيه أو تيئسَ منه, فهو الرِّباطُ الذي يربطُ بينكَ وبين ربِّكَ فلا تقطعْهُ.
وأَرجُو ألَّا تَنْسَاني ـ أيُّها الأخُ الكريمُ وأيّتها الأختُ الكريمةُ ـ مِنْ صالحِ دُعائِكَ.


حرر ونشر في 31/01/2012م

سر البركة التي حلتْ في حياتي.. (سورة البقرة)


أسرتْ إلي قائلة: لطالما أهاب دخول الشتاء بعد الحر, ودخول الصيف بعد البرد بلا مبرر!, حتی اعتدتُ على ذلك كل عام, وصار خوفي في نهاية الفصول عادة، وحين لم يحدث ذلك معي هذا العام تعجبتُ, ورحتُ أفتش عن السبب..
وكنتُ كذلك أهاب الحديث عن المستقبل وأخشى من مستقبل قاتم موحش مرعب بسبب إرهاصات واقع أمتنا الكئيب المؤسف الذي نعيشه, فيضيق صدري على مستقبل لم يأتي بعد حتى أكدر له صفو حاضر جميل أعيش فيه ولا أشعر بقيمته, وقد يلازم ضيقتي تلك شلالات من الدموع تهوي على صخور القلق التي ترقد في أعماقي, فتنهك قواي وأمرض جراء تشاؤمي ذاك!.. لكني منذ فترة لم أعد أشعر بهذا الشعور أيضا, بل إنني بحمد الله أشع تفاؤلا وبشرا رغم أن الإرهاصات تزداد كآبة!!.. ولقد تعجبت من حالي, ورحتُ أيضا أفتش عن السبب..

قلتُ: إن كنتِ وجدتِ السبب فإلي به فقد شوقتني لمعرفته.. وكثير من الناس في هذا الكون الفسيح يشكون مما شكوتِ منه لكن بنسب متفاوتة, ولعل تجربتك تستحق أن تدون كنصيحة ليستفاد منها بإذن الله..

قالت وابتسامة هادئة تتمدد على شفتيها: نعم وجدتُ السبب ووقفتُ عليه...
أتعلمين ما هو؟؟
كل هذا من بركات سورة البقرة التي ألزمتُ نفسي بقراءتها يوميا طلبا لبركتها.. لا لشيء آخر.
نعم, لا تعجبي... لقد ألزمت نفسي بقراءتها يوميا! ولقد حصلتُ من بركتها في هذا العام ـ بحمد الله ـ فوق ما أرجو وأؤمل, سواء في نفسي أو في بيتي أو في زوجي أو في مالي وأبنائي أو في أهلي وعائلتي..
 وفوق كل هذا.. نظمتْ لي وقتي بفضل الله, وقد كنتُ أظن قبل أن أبدأ بقراءتها أنّ جعلَها وردا يوميا لي سيستهلك وقتي, ويستنفد طاقتي, وسيجعلني أقصر في مهامي وأشغالي, لكني أدركتُ يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر أنها بركة عظيمة في حياتي, ولم تعد تستغرق مني أكثر من ثمانين دقيقة فقط وربما أقل, وقد أقرأها في وقت أقضيه في مطبخي أو أثناء عملي أو حتى أثناء وقت خصصته للمشي بعد أن بارك الله في وقتي!, بل إني من بركتها قد خصصت وقتا لورد قرآني آخر عشتُ عمرا أحاول أن أحافظ عليه وفي كل مرة أفشل.. فالحمد لله وحده..

ثم ختمتْ حديثها العجيب هذا بقولها:
 ليت بيدي أن أسر بهذه الوصفة المباركة لكل أحد أصادفه, فوالله ما أحوجنا جميعا لبركة القرآن في حياتنا!

قلت: صدقت, لا أشك أبد في أن لسورة البقرة تأثير مبارك على قارئها, فكما قال المصدوق عليه الصلاة والسلام أن أخذها بركة, وكم تضيق بنا الدنيا ولا يبقى لنا فيها متنفسا يسلينا إلا عبر تلاوتنا لكتاب الله وتأملنا فيه لننهل من حكمه ومواعظه, وكم عافى الله أبدانا من أسقامها الروحية والجسدية المستعصية بها, فبارك الله لك فيما استحدثت من عادة (وأنعم بها من عادة), وبارك الله في نصيحتك هذه, وإني لأسأل الله أن ينفع بها, ويكتب لك أجر من يأخذ بنصيحتك هذه مضاعفا في صحائفك يوم تلقينه.

وها هي نصيحتها قد دونتها لكم أحبتي عل بيننا من أنهكه البحث عن دواء كاف شاف لجميع أسقامه الروحية والجسدية ..
فأين المشمرون؟ وأين الباحثون عن البركة في حياتهم؟

المزيد عن فضائل سورة البقرة:http://www.alukah.net/sharia/0/73106/

اللهم ارزقنا حياة طيبة مباركة, واجعلنا جميعا من أهل كتابك الذين هم أهلك وخاصتك, واجمعنا بأحبتنا في جنات نعيم.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم


حرر ونشر في 9 نوفمبر‏، 2014م

خَوَاطِر وتَأَمُلاتٌ فِي سُورَةِ الكَهْفِ

خَوَاطِر وتَأَمُلاتٌ فِي سُورَةِ الكَهْفِ

لا شك أن من حكم تكرار قراءة سورة الكهف كل جمعة تيسير حفظها على المسلم، وهذه الحكمة وحدها دعت الكثيرين لكي يتأملوا ما أهمية تكرار قراءة هذه السورة كل أسبوع؟ وما الرسائل التي تحتويها ويحتاجها المسلم باستمرار؟
ولقد حظي هذا الجانب ـ كما هو معلوم ـ باهتمام المسلمين قديما وحديثا, فكتبوا فيه أروع التأملات والرؤى والتفسيرات، وتتبعوا ما في الكهف من حكم ومنهاج للحياة؛ مما يستحث النفوس على التعلق بها, وتأملها والتدبر في قصصها وآياتها، ومحاولة استكشاف: ما الزاد الذي يحتاجه المسلم من سورة الكهف لكي تسن قراءتها كل أسبوع؟.

ولقد انقدح في ذهني تأمل لطيف ـ لا يستبعد أن يكون قد طُرق من قبل لكنني لم أقرأ فيه بالتحديد ـ ورأيت ألا أمتنع من عن كتابته مخافة التكرار, فرب تكرار يبرز جانبا لم يُبرز, ورب عبارات خرجت من قلب الكاتب فأصابت قلب المتلقي وإن كانت تحمل فكرا مطروقا أو آخر مستهلكا.

هذه التأملات جالت بخاطري مع تأملي لأحوال بعض المسلمين المؤسفة من حولنا، فلقد  باغتتهم البلايا وانقضت عليهم, فأخرجتهم من الأمن إلى الخوف, ومن رحابة العيش إلى ضنكه, ومن الانشغال بتحقيق الكماليات إلى الكد في تحقيق الضروريات, كما أنها شغلتهم عن طلب العلم الديني والدنيوي بالانشغال بتأمين النفس والعيال من حروب مقيتة اشتعلت في أوطانهم فجأة بلا مبررات, فإذا بالكثير من الناس بات سجينا أسيرا وإن كان بين أهله وولده, وأضحى طريدا مهاجرا وإن كان في وطنه وأرضه, وإذا بالابتلاءات تصب فوق رأسه ألوانا وأسقاما.

وصحيح أننا نؤمن بأن المسلم مبتلى ومعرض للابتلاء والتمحيص في هذه الدنيا؛ وكلما تكالبت عليه المصائب وجب عليه العودة والتوبة والرجوع للاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله ؛ إلا أن بعض تلك الابتلاءات قد تحكم على الإنسان أن يكون وحيدا, وقد يتعرض لعزلة جبرية عن كل شيء وأي شيء.
فهناك الضائع في قلب صحراء أو في غابة موحشة أو في عرض البحر، وهناك السجين في قلب زنزانة صماء وهو محروم من مصحف يؤنسه فيها، وهناك الأسير تحت الأنقاض الذي يعد أنفاسه في انتظار من ينتشله, وهناك المرابط على الجبهة لا يغمض له جفن بالأيام والأسابيع وهو متكور في خندقه يراقب تحركات أعداءه.

وعلى شاكلة ما سبق توجد الكثير من الصور, هؤلاء كلهم يجمع بينهم عامل مشترك واحد وهو عدم توفر مصحف في لحظات ابتلائهم الحرجة, وعن هؤلاء ـ تحديدا ـ أتحدث, ومن جرب حالة من تلك الحالات أو موقفا مشابها لها لعلم أنه في هذه الحالة لا ينفعه ولا يسعفه من كتاب ربه ـ الذي هو في أشد الحاجة إليه ـ سوى استرجاع حفظه, وحين سيفعل ستكون سورة الكهف من أوائل السور التي سيحاول تلاوتها بعد المعوذات والفاتحة وسورة الملك وما اعتاد على قراءته بانتظام.

فتأملوا معي أيها الكرام ماذا تقدم سورة الكهف لمثل هذه الحالات؟؟

أولا: لقد اشتملت على قصص عدة ما يعني سهولة حفظها, وبالتالي سهولة استرجاعها, ولو نسي المرء بعض آيات في قصة من القصص فعلى الأقل ستكون أحداث بقية القصة حاضرة في ذهنه مما يزيد من نسبة التقاطه للنص مرة أخرى واسترجاعه له.

ثانيا: كون سورة الكهف تحتوي على قصص فإنها بذلك تقدم تسلية عظيمة لأصحاب الابتلاءات الذين هم في أشد الحاجة لمن يسليهم ويرطب قلوبهم ويؤنس وحشتهم.

ثالثا: لنتأمل قصة كقصة أصحاب الكهف الذين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت فذهبوا إلى مكان قصي واختبأوا فيه عن أعين الناس, اختبئوا من جبروت أهل الأرض في قلب جبل صلد, ورغم أنه ليس به من مقومات الحياة شيء إلا أن الله بإيمانهم وحسن توكلهم سبب لهم الأسباب, وتكفل بإحداث معجزة لكي يبقيهم على قيد الحياة لأعوام!!.
فهل يضيع الله عباده المخلصين الصادقين حتى وإن انقطعت بهم الأسباب في قلب صحراء أو في عرض بحر أو في ملاجئ تحت الأرض؟؟!!

رابعا: تأتي بعد ذلك قصة موسى  لتؤكد بإصرار عجيب على فكرة: (لعله خير!), فالحكمة قد لا تتضح في البلاء لكنها حتما موجودة وستظهر ولو بعد حين, فما أروع الاستئناس بمفهوم كهذا في قلب مصيبة تعصف بك عصفا, إن مفهوما كهذا كفيل بشحن المسلم بطاقة من الإيمان واليقين والرضى, معه يمنحه الله قوة هائلة على الصبر والرضى, بل وعلى الابتسام في أحلك المواقف.

خامسا: وفي سياق السورة رسائل أخرى مهمة تسلي تلك الحالات التي نتحدث عنها
 منها:

·إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا

·وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ

·وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا

·وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا

·وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا

·هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا

·الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا

·وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا

·وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلا

·وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا

·أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا

·وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا

·أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلا
·قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا

·إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا

باختصار .. مع تكرار تلاوتنا لهذه السورة فإن خزائن حكمها لا تنفد، وفي كل مرة تقرؤها متدبرا حتما سيستوقفك معنى أو نصيحة أنت بحاجة لها مع ما استجد عليك من أحداث.

فالحمد لله الذي أنزل إلينا القرآن، وجعله لنا شفاء ونورا ومنهاجا.
وصلى وسلم على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

بقلم/ حفصة اسكندراني


حرر ونشر في 26/09/2013م

رِسَالتي إِلَيْكَ يَا حَافِظَ القُرْآنِ!


يا حافظ القرآن إني هامس في أذنك بكلمة, ومفض إليك بعبرة, فهلّا ترجلتَ من دولاب الحياة الدائر بك لحظة حتى تسمعها؟, وهلا أفرغتَ لي قلبك من هموم الدنيا برهة حتى تعقلها؟, فإن عزمتَ أن تستمع لما أنا قائل؛ فاصطحب حِلمك وصبرك معك, فإنك إن تفعل فقد مهدتَ لقوافلي إلى قلبك دربا, وأخليتَ لها السُبل كرما منك وأدبا, فإن أعجبتك العير وما تحمل فقد حُزتَها.. وهي لك, وإن لم ترق إلى كريم ذوقك؛ فقد أعطيتَها من حلمك أمانا حتى تنسحب إلى غيرك, فلعل الله أن يشرح لها صدرا, ويكتب لي بها أجرا.

يا حافظ القرآن أما وأنك قد أرعيتَ لي سمعك, مستحضرا قلبك, وممتطيا صبرك؛ فاسمح لي أن أحدثُك عاريا من كل الأوسمة التي تقلدتَ, وجميع الألقاب التي حزتَ, لأريك نفسك كيف كانت ستبدو لو لم يمنَّ الله عليك بحفظ كتابه, لتعلم أنك إنما وُهبتَ هبةً لا تقدر بثمن, ولا توزن بميزان, ولا توصف ببيان!
فمن بين الآلاف المؤلفة من بين البشر ها أنت اصطفاك الله لمكانة عالية شريفة, وأشغلك عن الدُّنَا بتلاوة آيات محكمة كريمة, فهيَّأَ لسانَك للفصحى وغيرك يتلعثم, وهيَّأَ قلبَك للنور وغيرك في الظلام يتقلب, وجعلك من أهله وخاصته وربما غيرك للفجور يُنسب.

فقلي بربك: هل لحِقَتْك هذه النعمةُ من باب الاستحقاقِ؛ فأنت تحيا بها وتجني من وراءها ما هو حق لك؟! أم هي محض فضل وإنعام من الله عليك؟!
فإن كانت محض نعمة من الله وفضل؛ فهل تُعامل النعم إلا بالشكر لتربو؟ وهل يُعامل الإحسان إلا بالإحسان لينمو؟ فأين أنت من الشكر والإحسان حتى يزدك الله؟

يا حافظ القرآن أن الله أعطاك ببركة هذا القرآن النعمة تلو النعمة, والرفعة إثر الرفعة, وأنزلك به صدور المجالس, وأشرف المنازل, وأنت غارق في الغفلة, منشغل عن شكر النعمة, لاه عما يترتب عليك من استحقاقات, فإن رأيتَ أنك كذلك؛ فاحذر فإنما أنت تجني ما لا تستحق!.

ولا تعجب إن قلتُ لك أنك سائر على جسرٍ معلق, حِيكَ من الجدائل الرقيقة, وقد نُصِب على هوة سحيقة, يحملك من دنيانا الحقيرة إلى أعالي الجنة, فإن رقيتَه فسِرْ عليه ولا يشغلك جمع ما عُلِّق عليه من زينة وجوهر, وإن شجّعك الناس وغرّوك, فربَّ جوهرةٍ تطلبها من أجل أن تحوز رضاهم, أو تنال إعجابهم, فتخل بتوازنك لتهوي في الأعماق!, ويال شقائك إن هويتَ بعد أن كان يشار إليك بالبنان: "هذا قارئكم الصالح!, أو هذا حافظ كتاب الله!, أو هذا إمامنا ومعلمنا!"

فما بالك تغفل عن هول هذا الموقف؟! أما تذكر قول رسول الله  حين سُئل: يا رسول الله.. أرأيتَ رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "لا شيء له!"
أما تقلقك هذه العبارة: "لا شيء له"؟!.
أيّنا هذا الذي ﻻ يحب أن يذكر بخير يعمله؟!, أيّنا ذاك الذي ملك خطام الإخلاص فطوعه؟!, أيّنا الذي ﻻ يحب أن يعلم الناس بصلاح سريرته؟!, أيّنا ذاك الذي يستميتُ في اخفاء عمله خشية الرياء؟!.

ألا فاستفِق يا حافظ القرآن وانهض إلى ربك, قف بين يدي الله آيبا وابتهل له بالدعاء, قف بباب مولاك وتذلل له بالبكاء, اسكب دموع الوجل على وجنتيك, وهيأ لها ميزابا يوصلها إلى قلبك لتغسله بيديك.

ناجي ربك وقل: يا رب وجل قلبي وارتعدتْ فرائصي من يوم تنادي فيه قارئ القرآن, فتعرَّفه نعمه فيعرفها، فتقول له: فما عملتَ فيها؟ فيقول لك: يا رب تعلمتُ العلم وعلمتُه، وقرأتُ فيك القرآن، فتقول له: كذبتَ!, ولكنك تعلمتَ العلم ليقال عالم!، وقرأتَ القرآن ليقال هو قارئ!، فقد قيل، ثم تأمر به فيسحب على وجهه حتى يلقى في النار!
فيا رب يا من غفرتَ لبغي سقتْ كلبا وقد كانتْ فيما مضى تعصيك؛ اغفر لحافظ القرآن وأمطر عليه من سحائب جودك وعفوك حتى تنجيه, ولا تؤاخذه بشرك أو رياء تسلل إلى قلبه فأفسد عبادته.

يا رب إنا نشهدك أن ريائنا يقض مضاجعنا, وما قاومناه بضعفنا من جهة إﻻ اقتحم علينا جميع الجهات, ولا حول لنا ولا قوة إلا بك, نحن الفقراء إليك, نعصيك ولا نرتدع, ونرائي المرة تلو المرة ثم نؤوب, ثم نعاود الذنب بضعفنا ثم نتوب, وبعد التوبة إذ بنا نعود!!.

فيا رب مالنا رب سواك نسأله العفو عما فات, ونرجوه الثبات فيما هو آتٍ سواك يا رب العالمين, فيا من رحمت البغيّ بعفوك هب لنا عملا زاكيا ترضى به عنا.
اللهم آمين
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم


حرر يوم الجمعة الموافق 29 شعبان 1435ه, قبيل دخول شهر رمضان المبارك.

امْضِ وَلَا تُبَالي بِمَنْ يَقْلَقُ وَيَحتَرِقُ قَلَقًا بِاضْطِرَابَاتِ الغَدِ!


الكثير منا قد تابع وقرأ ورصد بنفسه خلال الفترة الأخيرة: تصاعد القلق السياسي عربيا وخليجيا, وحفنة من التشنجات في المواقف وردود الأفعال على أعلى المستويات, كما قد تناهى إلى مسامع المهتمين منا بالسياسية همهمات القلق التي تسري في الأروقة السياسية, وهي تتحدث عن مستقبل ضبابي تتجه نحوه دول المنطقة, وبدا أن المحللون السياسيون قد اتفقوا مبدئيا على أن الفترة القادمة هي فترة حرجة من تاريخ دول الخليج وشعوبها, لكنهم تفاوتوا في درجات قلقهم وتشاؤمهم!.
هذا التشاؤم وهذا القلق قد ألقى بظلاله القاتمة داخلي, فعشتُ أياما من الخوف والذهول والتفكير العميق, وبقيتُ هكذا مدة بين واقع لا أعيه وخيال أشرد إليه لأبحث فيه عما يجمع عليّ شتات نفسي، ويعيد إليّ يقيني وتوازني, فما تركت شيئا أعرفه إلا ورحتُ أطبب به نفسي لأعيد إليها استقرارها وطمأنينتها وأنزع عنها الخوف والقلق, فدارت بيني وبين نفسي حوارات عقلية وعاطفية ودينية كثيرة هدأت بها مخاوفي ـ بحمد الله ـ واستكانت نفسي, فلما رأيتُ ذلك منها فزعتُ إلى أوراقي كي أسجل خلاصة أفكاري رسالةً لكل من أصابه القلق من الغد الذي لا يُعرف أين ترسو سفنه, لعلي أترك بصمة فاعلة في التخفيف عن غيري, وأحسب أن في رسالتي هذه تسلية لقارئها, وإني لأرجو من الله أن تمس القلوب, ويقوى بها اليقين بالله, كما أسأل الله أن يبارك فيها ويضاعف لي الأجر عليها أضعافا كثيرة.

رسالتي: امْضِ وَلَا تُبَالي بِمَنْ يَقْلَقُ وَيَحتَرِقُ قَلَقًا بِاضْطِرَابَاتِ الغَدِ!

قارئي الكريم أنا لن أجاملك بمقدمات طويلة أحدثك فيها عن كم القراءات والتحليلات السياسية التي تصدق على أرض الواقع أو لاتصدق.. فهذا حديث لا يعنيني, لكني سأصوب سهمامي مباشرة نحو الهدف الذي أصبو إليه مستعينة بالله لأقول:

اقلق واحترق قلقا.. ليس لأنك صدقت تحليلات المحللين السياسيين؛ وليس لأن القلقون منهم أصابوك بسهم من سهام تكهناتهم المخيفة للمستقبل؛ وإنما اقلق إن كنت قد عشت حياتك شخصا أنانيا بامتياز, انغمست في النعيم آكلا شاربا عابثا مبذرا, لا ترى في الكون غير نفسك وحاجاتها, اقلق إن كنت ممن عاش الحياة مستأسدا, تنال حقوقك كاملة وغيرك بالكاد يلملم فتاتا من حقوقه المبعثرة, ثم أنت إلى جانب حقوقك تنتزع حقوق أي ضعيف تحتك, كأن الدنيا خلقت حقا أصيلا لك وحدك, وإذا اعتُدي عليك انتصرت لنفسك بظلم وبغي, تحيا الحياة بقوانين أنت اخترعتها لتناسب أهوائك وأنانيتك, ومادمت أنت بخير فالدنيا كلها بخير!, لا تشغلك حروب ظالمة تشتعل في بلاد العرب أو بلاد المسلمين من حولك, لا يهمك من يقتل من, ومن يحرق من, ومن يظلم من, ومن يستنجد بمن, ومن يبكي على من, ومن يموت لكي تحيا أنت.

إن كنت كذلك.. فاقلق واحترق قلقا, فلربما أوان سداد الدين قد آن!

أو كنت تظن أن رجلا ضعيفا أكلت حقه أو قهرته وأبكيته ثم انصرفت عنه مدبرا لا تلوي على شيء حتى طوى الماضي صفحته فنسيته.. أوكنت تظن أن الله ينسى؟!! فاقلق واحترق قلقا.
أو كنت تظن أن زوجتك التي هضمتها حقها, وفجَرت في خصومتك لها, ونشرت معايبها, وحرقت قلبها في فلذة كبدها, ثم نسيتها بما استقبلت من حياة رغيدة.. أوكنت تظن أن الله ينسى؟!! فاقلق إذن واحترق قلقا.
أوكنت تظن أن إعراضك عن ظلم تراه قد وقع على ضعيف لم يبالي ظالمه بحقه, وأنت قادر على أن تنكر ظلمه ولو بقلبك الذي قد من حجر؛ لكنك لم تفعل ولم تعبأ لأن تفعل, وتركت الظلم يترعرع ويستقوي, ويزداد بأسا وفتكا بالضعفاء.. أوكنت تظن أن الله ينسى؟!! فاقلق إذن واحترق قلقا.
أوكنت تظن أن قسوة قلبك على ظلم المستضعفين من إخوانك المسلمين من أهل الحق في سورية وفي مصر وفي كل بقاع الأرض؛ وتهربك من متابعة أخبارهم؛ وتقززك من مجرد رؤية جراحهم ودمائهم لكي لا يتكدر صفو حياتك.. أوكنت تظن أن الله ينسى؟!! فاقلق إذن واحترق قلقا.
أوكنت تظن أن اموالا اكتسبتها من حلال ثم تاقت نفسك لتنميتها بالحرام فنميتها, وزينت لنفسك الحرام وحللته, ثم أنت بعد ذلك تتهاون في زكاتها وتبخل في التفريج بها عن عباد الله..أوكنت تظن أن الله ينسى؟!! فاقلق إذن واحترق قلقا.
أوكنت تظن أن نعمة طعام بيدك قد قذفتها يوما ما من نافذة سيارتك, أو تركتها خلفك على طاولة طعام في مطعم, أو تركتها على سفرة مزدحمة بأصناف الطعام مُدتْ بين يديك في شهر الصيام؛ وأنت تعلم أن جياع المسلمين حولك يتمنون اللقمة.. وهم ليسوا في الصومال ولا في السودان ولا في مينمار ولا في سورية وإنما في نفس بلدك .. وفي نفس مدينتك, بل في نفس حيّك, ثم تتناسى ذلك كله..أوكنت تظن أن الله ينسى؟!! فاقلق إذن واحترق قلقا.
أوكنت تظن أن إسرافك في الطعام مفاخرة أمام ضيوفك في زواج ابنك أوفي مناسبة ترقيتك أوفي شتى مناسبات حياتك, أو تلك الآلاف المؤلفة التي تصرفها على ثيابك وعطورك وساعاتك وأناقتك, وملابس أولادك وأزياء زوجتك, واكسسوارات سياراتك, وأجهزة الاتصال المختلفة التي يزدحم بها بيتك, وسفَراتك ورحلاتك, ثم أنت برغم سخاءك على نفسك وأهلك بخيل على مشاريع الخير, وبخيل على الفقراء والسائلين, ولربما بخلتَ على فقيرة اتخذت لها مكانا بجوار متجر؛ لأن نفسك الأمارة بالسوء قد نصحتك بأنها: تمتهن الشحاذة وربما كونت من وراء ذلك ثروة!..أوكنت تظن أن الله ينسى؟!! فاقلق إذن واحترق قلقا.
نعم اقلق واحترق قلقا.. فلربما أوان سداد الدين قد آن!
أو تظن أن المال منجيك من أي أزمة؟ ..أنت واهم إذن!, سل أغنياء ذلوا في الجوار عن ذلك.
..المال يسرق, والبنوك تغلق, والأرصدة تجمد, ولن يبق إلا أنت وديْنُك فقط!
ستسدد ديْنَك من كبريائك ذلا أذللته عبدا ضعيفا من عباد الله, وقد تدور بك الدنيا فتقف أنت الضعيف أمام جبار ينتقم من ظلمك للناس في سالف الأيام, وقد تعمل أجيرا لتسد جوعك, وسل التاريخ كم حكى من أشباه تلك القصص!
ستسدد دينك من عرضك وشرفك إن كان ثمة أعراض لم تخش الله فيها أيام عزك وجبروتك!
ستسدد دينك بجوعك وعطشك كما أكلت وأسرفت وبذرت في الأيام الخالية!

ستسدد ديْنك تماما بالصورة التي اخترتها في حياتك, فانظر كيف عشت, واقلق بقدر تجبرك.


فإن كنتَ ـ أيها القارئ ـ ممن أحسن في حياته, ورُزق تواضعا ولين جانب, وحبا للمساكين, وعطفا على الأيتام والأرامل, وإحسانا للضعفاء, وإكراما لأهل الدين, ويعلم الله كم تنكسر نفسك ألما وهما إن رأيت ما يؤذي المسلمين في شتى بقاع الأرض, وقد حدثتك نفسك يوما حديثا صادقا بالجهاد في سبيل الله ونصرة المظلومين.. فإن كنت كذلك فلا تقلق.. فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.

نعم لا تقلق ولا تبالي بمن يقلق!


أو تظن أن الله الذي رأى منك صلاح الحال والنية يضيعك؟ والله لقد أسأت الظن ـ إذن ـ بالله!

أو تظن أن الله يرى منك إكرام النعمة والقصد فيها ثم يتركك تجوع حتى تلهث؛ وتظمأ حتى تموت؟ والله لقد أسأت الظن بالله!

أو تظن أن الله المطلع على قلبك الذي يعتصر ألما على مآسي إخواننا المسلمين في سورية ومينمار وفلسطين وفي كل مكان سيجعلك مأساة يُبكى عليها؟ والله لقد أسأت الظن بالله!
أو تظن أن مالك الذي زكيته وأكثرت فيه من الصدقات, ودفعته للمضطرين بلا منّ ولا أذى ..أو تظن أن الله يعرضك لمنّ متصدقٍ أو فضلة متكبرٍ؟ والله لقد أسأت الظن بالله!

أو تظن أن الله الذي علم تقواك وحرصك على ألا تعتدي على أعراض الناس ولو بنظرة .. مضيع عرضك؟ والله لقد أسأت الظن بالله!
دع القلق لغيرك, وخل الشائعات وراء ظهرك, وأكمل طريقك الطاهر بثبات ويقين, فصفحتك ناصعة, وذمتك نقية لا ديون عليها, ورصيدك الحقيقي في ازدياد, وهو قادر بإذن الله على تغطية الأزمات, وإخراجك من أية كوارث بأقل الخسائر والأضرار.

ازدد قربا لله وعبادة له, واجعل التقوى رداءك, والتواضع طبع من طباعك, والصدق خلق من أخلاقك, ولا تدع معروفا تعرفه إلا عملته واستزدت به لعله ينفع في يوم حاجتك, واقترب من الصالحين ليشدوا من أزرك, وليأخذوا على يدك إن اعوججت أو ملت, وعليك بالدعاء.. أليس بالدعاء يرد الله القضاء؟؟؟ فمالنا نغفل عنه وهو زاد المتقين ودوائهم, وبه يرفع الله المحن؟!!, ثم انهض أخي الكريم إلى الدعوة ولا تكسل, انقذ أمتك مما هي فيه المعاصي والفساد قبل أن يحل علينا غضب من الله, فوالله لازال الناس بخير لكنهم بحاجة لمن يحسن نصحهم وتذكيرهم بالله, فابدأ بأهل بيتك ومن حولك, ووسع دوائر دعوتك سريعا ولا تكسل, رزقنا الله وإياكم حسن الختام, ونقى سرائرنا, وطهر قلوبنا, وجعلنا بمنه وكرمه في هذه الحياة من السعداء الآمنين المكرمين, وفي الآخرة من الفائزين.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.

حرر ونشر في 16/11/2013م

رغم المشقة قل: سأعود يا عرفات !!


يسر الله لي الحج عندما كنتُ في الصف الأول ثانوي , وكان الحج بمثابة صدمة لي , فهو ليس كما توقعتُ وتخيلتُ , فقد خرجتُ للحج أمنّي نفسي برحلة ترفيهية , قد تشبه التخييم في البر مثلا , إلا أن حجم الجهد الذي بذلته , والإرهاق الذي لازمني , هو ما صدمني وألجمني وفاق تصوري .

وفي نهاية حجتي تلك أعلنتها جلية داخل نفسي : الحمد لله الذي جعل الحج جهاد المرأة , وفرضه علينا مرة واحدة في العمر , فإن كتب الله لي طول حياة فلن أعود لهذا الحجم الهائل من المشقة مخيّرة أبدا !!.

ومرتِ السنون , وشاء الله أن أخرج مع أحد محارمي لتوصيل أقارب لنا من المدينة إلى مكة , ليلة عرفة , فيسّر الله لنا دخول مكة , على عكس ما توقعنا , حتى أنزلناهم على بلاط الحرم المكي .

ولا أخفيكم شعرتُ حينها باشتياق يتصاعد داخلي للحج . وتفاجأتُ ونحن نولي مدبرين عائدين إلى ديارنا , بصرخة أطلقها مرافقي , اهتزت لها جنبات السيارة , فلتفتُ أرقبه وهو يقول :
( والله إنه لحرمان !! أن نصل إلى بلاط الحرم ثم نعود بلا حج ... والله إنه لحرمان ,
والله لئن كتب الله لي عمرا لأكونن مع الحجيج في العام المقبل بإذن الله ).

لقد قالها والحزن يقطر من فيه , رغم أنها ثاني أو ثالث حجة يتأخر عنها في حياته , فو الله علمتُ حينها أن الحرمان الذي يقصده إنما هو بذنب سوء نيتي في حجتي الأولى , فظللتُ ألوم نفسي وأعاتبها .

فلما كان الحج من العام القادم , وإذا بالحجيج قد فارقوا ديار المصطفى  , فبدتْ بعدهم خالية , كان من بينهم محرمي ذاك , وقد وفقه الله فأبر بقسمه , وبقيتُ بعده أمام شاشة التلفاز أتجرع مرارة الحرمان وحدي , وأنا أرقب الحجيج في منى وهم متشوقون للوقوف بعرفة في صباح الغد . تنهمر مدامعي حزنا على حالي , فأخفيها عمن حولي . وحين قلّبتُ القنوات لعلي أشغل نفسي عن تعذيبها , إذ بالشيخ عبد المحسن الأحمد يبكي وهو يتحدث حديثا عذبا مؤثرا ـ بأسلوبه الرقيق ـ عن الشوق إلى عرفات , فزادني ألما على ألم , وانهمرت أدمعي دون توقف . وأعلنتها توبة نصوحا عما حاك في نفسي من الإثم في ذلك الوقت , وحين شعرتُ بالإرهاق نهضتُ استعدادا للنوم , وأنا أوصي إخوتي بإيقاظي وقت السحور , عازمة على صيام عرفة .
وبينما نحن كذلك إذ بِطلَّة والدي الحبيب تشرق علينا , فيقول بابتسامة عريضة محببة :

من يشجعني منكم لنكون غدا مع الحجيج في صعيد عرفة ؟؟

حينها توقف قلبي وكاد ينخلع من بين أضلعي , لم أعي ما يقول , صرختُ ... فرحتُ ... بكيتُ ... لا أجزم بما حدث وقتها , غير أنها كانت سعادة لا حد لها , ولا قوة لي على ضبط مشاعري حين تلقيتها . ولا أظن مدادي سيوفيها حقها .

وبالفعل منّ الله علينا ويسر لنا التلاحم مع وفود الرحمن في صعيد عرفات قبيل عصر ذلك اليوم المبارك

وإذا بها حجة رائعة , تلذذتُ فيها بكل تعب ومشقة , وظللتُ ألهج فيها بحمد الله على ما يسر لي في آخر اللحظات ,

ولم أحرك قدمي من الصعيد الطاهر إلا وقد أعلنتُها بقوة :

( سأعود يا عرفات , سأعود ... بإذن الله )

أسأل الله أن ييسر لي ولكم ولكل مشتاق حجة مقبولة في القريب العاجل بإذن الله .

وفقنا الله وإياكم لطاعته.


حرر ونشر في 14/11/2010م

قصاصَاتٌ مُتَنَاثِرَةٌ!


لما كان حديث الجمعة هذا الأسبوع من جملة ما يلاحقني من المهام التي وعدتُ بإلزام نفسي بها؛ كان لزاما عليّ أن أوفي بوعدي رغم شدّة انشغالاتي (والتي معها أضحيتُ بالكاد أسترق وقتا أنادم فيه حاسوبي!). وحين أمسكتُ بالقلم أخطّ مشاركتي تقاذفتْ عليّ المشاغل الذهنيّة من كل حدب وصوب, وراحتْ تتجاذبني وتتنازعني وتتقاسمني حتى تشتت ذهني وتمزقت همتي. فلما حدّثتني نفسي بالانسحاب والاعتذار = وبّختها وحثثتها على الإقدام وحسن الوفاء بالوعد.
وها أنا قد أتيتُ ولكن في جعبتي قصاصات مختلفة كتبتُها في أوقات سابقة, منها ما نشر من قبل ومنها ما لم ينشر, ولقد عزمتُ أن أنثرها في هذه الزاوية حين أبت خيوط فكري أن تنتج نسيجا مكتملا. وإني لأرجو لقصاصتي المتناثرة هذه توفيقا تحوز به الإعجاب :

**القصاصة الأولى:
حين تتفتحُ عينُ الإدراك فيك بعد أن تخرج من شرنقة الطفولة مفعما بالحيوية؛ مقبلا على الحياة بحماس متقدٍ, وعاطفة شاعريةٍ, فتنظر إلى عالمك الجديد بعين الشاب الناضج لا بعين الطفل الذي كُنْتَهُ, تستصحب من الطفولة شيئا من البراءة مع حب الكون, ثم تضفي عليه مسحة من المشاعر العميقة, فتأتي نظرتك في قالب جديد مميز, ترى فيه عيناك كونا بديعا رائعا, صاخبا بالألوان البراقة والطبيعة الآسرة الجذابة.
... فتفتنك الشمس بشروقها... وتسحرك بروعة غروبها, ويأسرك البحر حين يعانق الأفق بزرقته, ويعجبك سكونه من بعد ثورته... تطربك الطيور بتغريدها, وتجذبك الزهور بأريجها. وينعكس كل جميل تراه عيناك على مشاعرك وروحك بعمق.
فإذا بالحياة تسحرك حتى تُقبِلَ عليها باندفاع المتهورين وشغف المتلهفين وهيام العاشقين, فتراها حلوة خلابة فاتنة, فترفرف السعادة في كل زوايا قلبك حتى يفيض فؤادك حبا للحياة وحبا للناس أجمعين.
ولا تزال في غفلتك وافتتانك هذا حتى ..... تلج دهليزا من دهاليز الحياة!!!
نعم... ثمة دهاليز في الحياة لا نبصرها, ولا نشعر بوجودها إلا لحظة ولوجنا فيها.
في الدهاليز لا ترى ضوء الشمس ولا موج البحر ولا نبض العشق... فقط تشتم رائحة الطين ممزوجة باليأس.
في الدهاليز تمضي وحدك... تقاسي وحدك... وتتألم وحدك, قد تحظى بمن يواسيك, ومن يبكي لأجلك, لكنك لا تحظى بمن يتألم بدلا عنك!
بعض الدهاليز سطحية وقصيرة, تدخلها سريعا لتخرج بعد ذلك فتنساها...
وبعضها يأبى إلا أن يعلق في ذاكرتك بطولِهِ وشدة ظلمته...
والبعض الآخر لا تخرج منه إلى الحياة أبدا, فهو دهليز معتم بلا نهايات... سيشهد معاناتك... وسيُقبِر نهاياتك...
أعاذنا الله وإياكم من كل بلاء وكل مرض.

**القصاصة الثانية:
ما أعذب حديث الأدباء !! وما أرّق طباعهم!!...
لهم حسّ مرهف يكاد النسيم برقّته أن يخدشه!!... ولهم نفوس كالزجاج الرقيق تكاد أدنى لمسة أن تهشمه!!
ترى النفوس تهفو إلى مجالستهم, والأسماع تطرب بحديثهم, لأنهم إنما يجودون عليك في مجالسهم بنصيبهم من السعادة في هذه الدنيا, فإذا ما خلو إلى أنفسهم تراهم إلى الصمت أقرب, وبالحزن ألصق!!
ترهقهم الحياة لقسوتها وشدة وقعها على نفوسهم الرقيقة, وترهقهم أيضا لكثرة تقلب قلوب العباد فيها بين حب وكره ووفاء وخيانة ... وما ذاك إلا لأنهم إن أحبوا أخلصوا... وإن أخلصوا كان عطائهم بحرا لا ساحل له!!.

**القصاصة الثالثة:
الإخلاص في الود والحب بين الأصدقاء نادر ندرة الماء العذب في قلب صحراء قاحلة!!
والحفاظ على هذا النبع صافيا عذبا أمر صعب وشاق!!. لأن صاحبه يعده أمانة تركها خله في قلبه..
لذا ترى المخلص إذا ما هبت عواصف الحياة المختلفة هرع إلى ذاك النبع فغطاه بجسده كي لا تردمه رمال الصحراء الزاحفة فيختفي, أو تخالط ماءه ذرات التراب المتطايرة هنا وهناك فتغير صفاءه!
وحين تشتد شمس الصيف تراه يفدى نبعه أيضا بجسده !! فلئن جفت أنهار الحياة من شرايين جسده أحب إليه من أن يجف نبع الوفاء والحب الذي يجري في فؤاده لصاحبه!!
لذا فلا عجب أن نرى الصديق المخلص حين يُرمى بسهام الخيانة في موطن الوفاء من قلبه يترنح وينزف ويتوجع!!
وحق له أن يترنح ويتألم لأن ذلك النبع الرقراق الذي سهر الليالي ليحافظ عليه قد أتى صاحبه الذي أودعه أمانة في قلبه فادعى أنه قد باعه وقبض ثمنه منذ زمن, أو أنه حين عاد تنكر له بالنسيان بحجة أن ذلك النبع التافه لم يعد يهمه بعد أن فُتحت عليه الدنيا بخيراتها!!

**القصاصة الرابعة:
من المفارقات ... تلك الهمّة التي تدفعك على طرد النعاس والسهر بنشاط متّقد في غرفة مظلمة وهادئة أمام شاشة حاسوبك؛ تحادث هذا وتجادل هذا وتسامر ذاك, فتطوي الساعة تلو الساعة حتى يطلع عليك الفجر ولمّا يتجرأ النعاس أن يتسلل إلى جفنيك ولو لمرة واحدة !!
بينما لو حيل بينك وبين جهازك ثم أُعطيتَ مصحفا بدلا عنه في ذات الغرفة المظلمة تلك؛ لرأيتَ النعاس وقد تجيّش حول عينيك في ميمنة وميسرة, وفي قوات برية وبحرية وجوية, ثم إذا به ينازلك الجولة تلو الجولة, لا يحطّ من عزمه انتصارك في أولى الجولات, ولا يعتريه يأس أو ملل إن أردف لنفسه خسارة تلو خسارة.
ثم ما هي إلا ساعة أو تزيد إلا والحرب قد وضعت أوزارها بانهيار دفاعاتك, وهزيمة كل مقاوماتك؛ فإذا بك تغط في نوم عميق تحت راية الاستسلام الشاهدة على هزيمتك المخزية!!

فيا ترى هل كان محدثك الذي لم تنعس بين يديه أفضل قولا وأصدق حديثا وأكثر نفعا لك من محدثك الذي نعست بين يديه؟؟!!




حرر ونشر في ملتقى أهل التفسير   29/06/2012م

عَلِّمْنِي الحِوَارَ يَا أَبِي!!


هَذِه رسَالةٌ مرسلةٌ إليكَ ـ أيُّها الأبُّ الكريمُ ـ من ابنتِكَ , فارْعِها سمعكَ وقلبكَ , وأبحرْ في أعماقها بكلِ كيانكَ , واسمحْ لخيالكَ أن يهمسَ بها في أذنكَ كما لو كانتْ بصوتِ ابنتكَ بالفعل , لتكونَ إلى قلبكَ أقربَ!

أبي الحبيبُ...
أيا نبعَ حنانٍ ينبضُ له خافقِي.. يا سحابةَ عطاءٍ ومحبةٍ تلاحِقني أينما ذهبتُ.
مذ ولدتُ وأنا مدللةٌ أتقلّب في كفِّ جودكَ.. وأتمادى في دلالي على بساطِ حلمكَ.
عيناكَ بحاري التي وعيتُ على شواطئِها, وضحكاتُكَ سيمفونية يخفقُ قلبي الصغيرُ طربًا لسماعِها.
قلبي وقلبكَ موصولٌ بحبالٍ متينةٍ لا يراها أحدٌ, وحدَنا نحن مَنْ نشعرُ بها.
أنتَ في عيني أروعُ رجلٍ, وأحنُّ رجلٍ, وأعقلُ رجلٍ, وأكرمُ رجلٍ.
أنت كالغيثِ.. إنْ طالَ غيابُك عن منزلِنا تغيبُ عنّا الحياةُ ويخبو بريقها, وحينَ يقترب موعد عودتك يزهرُ أفقي ويبشُّ شوقا لرؤيتك, فتراني أرقصُ فرحا وأنا أرهف سمعي لأترقب وصولك, حتى إذا ما الْتقت أذناي الصغيرتين هدير سيارتك أو صوت دوران مفتاحك في باب المنزل؛ انتفضتُ أسابقُ الريحَ راكضةً إليك, فتراني أقفز قفزة (أولمبية) ترفعني إلى مستوى قامتك, فأتعلّق برقبتكِ, وأدفنُ وجهي الصغير في صدركَ, استعدادًا لاستقبالِ سيلِ قبلاتكَ الحانيةِ, التي طالما عودتَني أن تُمطرني بها.
حضنُك جنتي ورضَاكَ دوما غَايتي.
إن رأيتني باكيةً ضمَمْتني إليكَ فكأنك تغمسُني في نهرٍ من الرضا يَسْكُن به غضبي وتنطفِئ به حُرقتي.
وإن تألّم جسدي بمرضٍ قرأتُ القلقَ جليًا في عينيكَ لم يُخفه عني تجلُّدك وتصبُّرك, ولم تخدعني فيه الابتسامةُ التي تفتعلها من أجلِ تسليتي والتخفيفِ عني.
وإن اعتدى عليّ أحد إخوتي كنتَ الصدرَ الحنون الذي يستقبلُ شكوتي, والمحامي الماهر الذي يترافع في قضيتي, والقاضي العادل الجائر الذي يحكمُ لي, وإن اقتضى الأمرُ : يحكمُ عليَّ مع تخفيفِ الأحكامِ إلى الحدِ الذي يُصبح فيه المتهمُ بريئا!, والقاتلُ مقتولا!.
وفي حالة برائتي فأنتَ ـ رعاكَ الله ـ منفذُ العقوبةِ الذي تأخذ الحقَّ لي ممَنْ ظلمني دونَ أن أُدمي أناملي الرقيقةَ في الاستنصارِ لنفسي.
حياتي خيمةٌ أنتَ عمادها الذي يُبقيها بإذن الله شامخةً هادئةً ورائعةً.
ولكن مهلًا يا أَبي.......
أنا لن ابقَ دوما مُدلَّلتُك التي تسعى سعيًا حثيثًا لإرضائِها, وتشعلُ بهداياكَ الثمينةَ شموعَ سعادتِها, وتلاحقُ بأنامِلكَ الحانيةَ دمعاتِ حُزنِها, وتستنصرَ لها من إخوتِها أو مِمَنْ بغى عليها... أنا لَنْ أعيشَ معكَ دومًا يا أبي, وكم أعتصرُ حزنًا حين أقولُ: وأنتَ لن تعيشَ لي أبدَ الآبدينَ يا أبي.. حفظكَ الله يا أبتِي ورعاكَ, ولا حرمني مِن رؤيةِ محيَّاك.
لكنّها الحقيقةُ المؤلمةُ!
فيومًا ما ستُسلّمني بيدك الحنونةِ إلى رجلٍ آخرَ لا أعلمُ كيف سيعاملني؟, ولا كيفَ سأتعاملُ معه؟ وهل سيُحبُّني ويُدللني كما كنتَ تفعل أم لا؟
نعم.. سأضطر أن أعايشَ رجلًا هو حتمًا لا يشبهكَ, ولا يُداني حُبُّهُ لي حُبَّكَ وحنانكَ عليَّ.
ومن وراء هذا الزوج أبٌ وأخوةٌ سأضطرُّ أنْ أتعاملَ معهم أيضا, وفي الحياةِ مواقفٌ لا أدري إلى أيِّ رجلٍ ستضطرني لأتعاملَ معه كي آخذَ حقًا أو أقضي حاجةً أو مصلحةً.
وربما قد أضَّطر يومًا لأن أعيشَ في كنفِ أخٍ أو عمٍ أو خالٍ... أو ربَّما تضطرني الحياةُ لأواجِهَ شُرطيًا أو قاضيًا أو جارًا متسلطًا على أرملةٍ أو مطلقةٍ, أو مديرًا في العملِ, أو مبتزًا يستغلُ وحدتي وضعفي وحاجتي, أو عدوا يتربص بي.
أليستْ الحياةُ لَا تُؤمَنُ يا أبي؟؟!!!
إذن أرجوكَ علمني كيفَ أحسنُ الكلامَ؟, علمني كيفَ أحاورُ الناسَ وكيفَ أعبّرُ عمّا أريد؟
علمني كيف أرتِّبُ الأفكارَ؟, وكيفَ أدافعُ عن حقي؟.. متى أكونُ حازمةً؟ ومتى أتنازلُ؟
لقد اعتدتُ أنك يا أبتي الحبيبُ تعرفُ ما أودُّ قوله قبل أن أقولَه, وتعزِمُ على أن تنفِّذَ طلبي الذي لم أطلبه بعد, وبمجردِ أن تلتقطَ طرفًا من عباراتي وأنا أُتَهْتِهُ في حروفي = تُعفيني عن إتمامِ الكلامِ وتُومئُ لي بَأَنْ : فهمتُكِ!.
أنا مُدلّلتُكَ يا أبي... لكنَّ الناسَ لن يفعلوا مَعي كمَا تفعل.
علمني كيفَ أصوغُ طلبي.. نبهني إلى حسنِ اختيارِ الألفاظِ..
قل لي: ليس بيني وبينكِ حواجزٌ ولا رسمياتٌ لكني أريدكِ أن تتعلمي كيف تطلبي حاجتكِ؟!.
لا تقلْ لي: لا, وتكتفي بها جوابًا حينَ أطلبُ منكَ أمرًا لا تراهُ في صالحي.
اسمعْ مبرراتي يا أبي , اجعلْ هناك مساحة تستفزني لأقدِّمَ مبرارتٍ قويةٍ لطلبي الذي أرغبه, دعني أبذلُ جهدًا كي أصوغها لك بلغة الإقناعِ, وأجمِّلها وأرتبها قدرَ استطاعتي, دعني أُصرُّ إصرارًا مهذبًا , ثم اطرحْ وجهةَ نظركَ ليكونَ بيننا حوار فيه أخذٌ وردٌ , وقناعةٌ واقتناعٌ.
وحين آتيكَ باكيةً أشكو من أخي فلان أو ابن عمي فلان الذي اعتدى عليَّ بالسبِّ أو بالضربِ = اجعلني أنَا مَنْ أترافعُ عن حقِّي, فأنا كما تعلم لا أبينُ في الخصامِ ولا أحسنُ الردَّ, فقد يُربطُ لساني وتبقى دموعي وحدَها هي التي تتحدّث. لذا أرجوكَ امسحْ دمعتي بلطفٍ وقلْ لي: أدلتُكِ غيرَ كافيةٍ, فهلّا حاولتِ مرة أخرى!...
دعني أحاولُ في كنفكِ أن أتغلبَ على ضعفي, دعني أتعلمُ أن دمعتي ليستْ هي شَكوتي, وليستْ هي سبيل إعلانِ براءتي.
قُلْ لي أنتي غاضبةٌ الآن... اذهبي ورتبي أفكاركِ, وحين تهدئينَ احكِ لي ما حدثَ بالتفصيل!
صحيحٌ أن الكثير من الأحداث والمواقف طبيعيّةً وتتكرّر غالبا في كل بيتٍ.. لكن سيكونُ من الجيّد أن أتعلَّمَ من تلك الأحداثِ والمواقفِ الصغيرةِ ما يُعيننُي ويصقلني لمواجهةِ الحياةِ في المستقبلِ.
علِّمْني يا أبي أَنْ أُحجِّم الشُكوكَ التي يَسبقُ إليهَا ظنِّي باعتبارِي أُنثى, علِّمني أَنَّ الحدسَ ليسَ دليلًا وإنْ كانَ صوتُه هو الأعلى في رأسِي.
علِّمني كيفَ أفكرُ بمنطقيةٍ وتسلسلٍ وعقلانيةٍ.
علِّمني حينَ أتخذُ قرارًا أن أفكرَ في خلفياتِهِ ومآلاتِهِ, وسلبيّاتِهِ وإيجابيّاتِهِ.
اطلبْ إليَّ أنْ أرتِّبَ حجزًا على الهاتفِ لإحدى سفراتِكَ, أو اجعلني أُقدِّمُ بلاغًا لموظفِ الاتصالاتِ عن خللٍ أصابَ الهاتفَ, شجَّعني أن أتَّصلَ على شيخٍ أستفتِيهِ في أمورِ حجٍ أو عمرةٍ حتى وإن كنتُ صغيرةً في السنِّ, دعني أجربُ أن أُجري حوارًا كهذا... املي عليَّ ما يجبُ أن أقول, ثم استمع إلى حواري وشجّعني عليهِ, ثم قوِّمني.. وتأكد أنني مرةً فمرة سأجيدُ الكلامَ, وسأحسنُ التعاملَ, ولن يستغلَّ أحدهم يومًا حيائي المذموم الذي يُضيعُ الحقوقَ ويورثُ الضعفَ.
سأبقى أتسرْبَلُ بحياءٍ محمودٍ معه أقولُ للكريمِ: شكرًا, وللئيمِ: خسئتَ, وللعظيمِ: أنعمْ وأكرمْ, وللمستغلِ: إياكَ فاحذرْ, وللظالمِ: قفْ ولا تتمادى.
سأقولُ ـ وحيائي تاجُ رأسي ـ ما أريدُ, سأطالبُ بحقوقي عندَ من كانتْ, وسأكون امرأةً قويةً في كلِ مراحلِ حياتها, ولي قدوةٌ من جدَّاتي الحرائر وعلى رأسهنَّ أمهاتُ المؤمنينَ ونساءُ الصحابةِ الأبيَّاتُ الفصيحاتُ اللواتي لا يرضينَ بالضيمِ, ويأبينَ الذلَّ, ويحسنَّ الكلامَ, ويبرُزنّ شامخاتٍ في أحلكِ المواقفِ.
اصنعني بيدكَ وتحتَ عينِكَ يا أبي فالمستقبلُ مجهولٌ لكليْنا ولا نعلمُ كيفَ ستجري مقاديره؟
حفظكَ اللهُ لي ورعاكَ

ابنتُك المحبّة

هذه رسالة افتراضية على لسان ابنتك, مرسلة إليك أيها الأب المربي الصالح المحب الحنون, فتأملها وعشها ونفذها فأنت أب مميز تستحق أن تفخرَ ابنتُك يوما ما بحسن تربيتك وعنايتك بها, وأظنك لا ترضى أن تكون ابنتك ضعيفة الشخصية, لا تحسن الكلام ولا تجيد الرأي, تتخبط بضعفها في الحياة , وتتخبط الحياة بقسوتها بها, حالها كحال الكثير من فتياتنا.
وأخيرا وقفة وفاء لابد منها
أسجّلُ شكري وتقديري وامتناني لوالدي الحبيب الذي كان تعامله معي مُلهِمي في كتابةِ هذهِ الكلماتِ, وأُترجمُ شكري هذا بدعواتٍ خالصاتٍ أسأل الله فيهن بأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة, وأن يجمعني به وبجميع أحبتي في مستقر رحمته.


حرر ونشر في 07/12/2012م

تَرَاوِيح مِن أَرْوِقَةِ المَسْجِدِ النَّبَويِّ الشَّرِيفِ..


 هذه قصاصات مصورة بقلمي ماجت في روحي واختلطت بدمي قبل أن تختلط بحبري, أسميتُها تراويح (جمع ترويحة وهي جلسات الراحة), فهي تراويح لنفسي وروحي.. صاغها قلمي في عقد تراه حينا متناسقا, وحينا تراه متباينا, ولا شيء يجمعها سوى أنها تنقل صورا من مسجد الحبيب المصطفى , فإن شئت قلتَ: أنها تراويح أدبية, أو قل: تراويح روحية, والأخيرة أقرب لأنني إنما كتبتُها متنفسا لروحي لا متنفسا لقلمي, فتراني إن أصبتُ البلاغة فيها مرة أخطأتُها مرات, وإن أجدتُ وصف معنى فيها لم أحسن وصف غيره من المعاني في كل مرة, وإنما جاءت تراويحي هكذا كيفا اتفق.

الترويحة الأولى:
صدح المؤذن بأذان الفجر أن: حي على الصلاة, وانساب صوته الرقراق بمقام حجازي يأسر الألباب، ومع ندائه خشعت الأصوات وهدأت، لا شيء يعلو صوته فوق الأذان.. وكلما انتهی المؤذن من مقطع تكاد همهمات ترديد الأذان خلفه تصنع ما يشبه الضوضاء, ولكنها ضوضاء حييّة تأتي بخشوع..
وحين انتهى المؤذن من نداء الفلاح؛ إذ بالناس بين قائمٍ وراكع وساجد، ومصلٍ على المصطفى  ومسبحٍ وحامد, ورافعٍ يديه يلهج بالدعوات، ومقلبٍ نظره بين الروضة والحصوات, ومصغٍ إلى زقزقة عصافير مختبئةٍ بين الثريا المدلاة, وآخر يبحث بين المصلين عن موضع قدم ليدرك الصلاة.

الترويحة الثانية:
حين تقام الصلاة في المسجد النبوي الشريف يعني ذلك إيذانا بالتئام الجموع في سلاسل بشرية متوازية ومتقاربة, فتتلاصق الأكتاف وتتلامس الأقدام، بعضها امتثالا للسنة، وبعضها تتلامس غير مخيرة من شدة الزحام, فهذا هو المسجد النبوي في رمضان!.
يبدأ الإمام في الصلاة فتنساب آيات الفاتحة إلى أذنيك وقلبك وروحك, وحين ينتهي منها ويجهر الجميع بالتأمين خلفه؛ تدركك لحظات صمت لا توصف إلا بكونها معجزة، فكل ما يُتوقع من رداتِ فعلٍ بشرية يمكن أن تصدر من هذه الآلاف المؤلفة إلا الصمت! فإذا أصغيتَ لصمتهم ذاك غشيتك رجفة خشوع تذكرك بعظمة الوقوف بين يدي الله, فتذكر قول الله: "وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا".
فالحمد لله الذي منّ عليك أن تكون قطرة من هذا البحر المبارك الذي يقف للصلاة في ثاني المساجد الثلاث التي تشد إليها الرحال, وكم من قلوب تشتاق لموضع قدمك هذا, فلله الحمد والمنة.

الترويحة الثالثة:
في صلاة التراويح في المسجد النبوي لا يكفي أن تجد لك مكانا بين الصفوف لتصلي فيه؛ بل لابد أن تؤمِّن لرأسك موضعا بين أقدام المصلين وبين أرجل الكراسي التي يجلس عليها بعض من يقف في الصف الذي أمامك, ولن تكون محظوظا في كل يوم برؤية بقعة كافية من السجاد الأحمر الخاص بالمسجد النبوي الشريف تنتظر رأسك الكريم!.
وحين ييسر الله لك أن تؤمِّن موضعا لسجودك فلا تسلم من أن تجد عليه بضع حبات من السمسم اللاتي تناثرن من موائد الافطار التي نصبت في ذات المكان بعد أن أخطأتهن يد عمال النظافة, وقد تتلصق حبات منهن بجبهتك عند السجود!
ومع كل هذا وذاك.. ومع كل ضيق أو معاناة ستجد نفسك منجذبا إلى المسجد النبوي في اليوم التالي لتعيد التجربة ثانية كالمسحور.
فاللهم لا تحرم من المسلمين مشتاقا لزيارة هذه الرحاب الطاهرة.

الترويحة الرابعة:
حين تطأ ساحات المسجد النبوي قبيل آذان مغربِ يومٍ من أيام شهر رمضان بنصف ساعة تقريبا؛ حتما ستتفاجأ بساحات أخرى غير التي تعرفها, بل وغير تلك التي تنقل لك عبر شاشات التلفاز وقت الإفطار, فهناك على أرض الواقع إدراك آخر, وشعور مغاير, وانبهار أعمق, تعجز جميع الكاميرات عن نقله بكل ما يحمل من جمال وروعة, فثمة أعداد كبيرة جدا من موائد الإفطار العامرة بما لذ وطاب قد غطت الساحات جميعها, وقد صفتْ في مربعات متجاورة, فكأنما جرى قلمٌ بينها فرسمها وضبط أبعادها, ثم خطّ بينها دروبا وطرقا للمارة!, وعلى تلك الموائد خلق من شتى أجناس الأرض التي تعرف والتي تجهل, وجميعهم ـ على جوعهم وذبولهم وحرارة الجو التي تلفعهم ـ يجلسون بسكينة أمام الطعام, منهم من تشاغل بتوزيع التمر على الصائمين حوله, ومنهم من أقبل على الله يدعو, ومنهم من انشغل بتلاوة القرآن, في انتظار أن يحين الوقت الذي يسمح لهم فيه الله  بالإفطار بعد أن أمسكوا عن الطعام والشراب لأجله... فعجبا لهذه المعاني الجميلة التي تحاصرك في خطواتك القليلة التي تخطوها في الساحات للوصول إلى داخل الحرم!
وفي تلك الخطوات التي تقطعها في ساحات المسجد النبوي يستقبلك فتية وولدان, وشيبا وشبان يدعوك كل واحد منهم ـ بكرم أهل المدينة وبلهجتهم المحببة ـ لتلحق بمائدته داخل الحرم وخارجه ليتشرف بخدمتك, وليكسب أجر إفطار مسلم, ورغم بساطة الموائد التي نصبت داخل الحرم مقارنة بتلك التي في ساحاته فإن اللقيمات التي ستقتاتها من تلك السفر المباركة ستكون أحب إليك من موائد أفخر المطاعم, وموائد (البوفيهات) المفتوحة, بل وستعلق بلذة بساطتها في ذاكرتك ما حييت... ولا تسل عن خفة الصلاة والعبادة بعدها.

الترويحة الخامسة:
حين تتأمل موائد الإفطار التي تمتد داخل أروقة المسجد النبوي الشريف تقف مبهورا من شدة العجب, فهي موزعة بين المصلين وقد غطت المساحات المخصصة للصلاة واخترقت الجالسين عرضا وطولا, ما يعني أن صلاةً يستحيل أن تقام وتصف لها الصفوف حتى تنتهي هذه الفوضى التي قد تستغرق ساعة لإزالتها على أقل تقدير! ومع ذلك سيتعاظم عجبك وانبهارك حين ترى أن إزالتها والتئام الصفوف مكانها لم يستغرق من الوقت سوى عشر دقائق فقط لتقام الصلاة وكأن شيئا لم يكن.. وكأن طوفانا لم يمر!
فأين المستهزئون بالعرب والمسلمين لأنهم أهل فوضى لا يعرفون النظام ليتأملوا هذه الخلية العظيمة التي تعمل بانسجام ودقة؟!..
مشكلتنا الحقيقية أننا لا نتعلم الكثير من ديننا.

الترويحة السادسة:
قبيل صلاة العشاء وكذلك قبيل صلاة التهجد في المسجد النبوي بربع ساعة تقريبا ستعتادُ ـ كما اعتاد أهل المدينة ـ أن تشتمّ رائحة بخور زكية تتسلل إليك عبر فتحات التكييف الذهبية الموجودة في الأعمدة البيضاء, فكأنها تعلمك هي الأخرى أن وقت الصلاة قد اقترب, فلا تبدأ الصلاة إلا والمسجد النبوي يعبق برائحة عود طيبة, وليس هذا فحسب .. بل ربما يأتيك في الاستراحات القصيرة بين الركعات رجل وقور أو شيخ مسن قد أمسك بيده قنينة مسك, وراح بعناية يمسح بالمسك الزكي على أيادي المصلين, وكلما استحسن أحدهم الرائحة ازداد وجهه الرجل بشرا وهو يستقبل الدعوات ويتمتم بـ: آمين آمين.


حرر ونشر في17/07/2014م

تأملاتٌ مِنْ نَافِذَةِ الطَّائِرَةِ !!


في الصيفِ الماضي اتخذتُ مقعدي في الطائرةِ بجوارِ النافذةِ كعادتي , ورحتُ أطلُّ منها أتأملُ ما حولي وأطيلُ النظرَ فيه , أحتضنُ ببصري كلَ ما أستطيعُ أن أبصرَه من أرضِ طيبةَ الطيبةَ , التي أهيمُ بها ويجري حبُّها وعشقُها في دمِي .
وحين انطلقتْ الطائرةُ على مدرجِ الإقلاعِ , وحلّقتْ مفارقةً الأرضَ ؛ كان همّي أنْ ألتقطَ بعيني صورةً شاملةً للمدينةِ المنورةِ , صورة أرى فيها مسجدَ الحبيبِ عليه الصلاةُ والسلامُ يتوسَّط العمرانَ كلؤلؤةٍ ثمينةٍ تحوطُها صدفةٌ حانيةًٌ محبةٌ , أردتُ أن أرى معالمَ المدينةِ وأحيائَها حيثُ ولدتُ وحيثُ نشأتُ وحيث أسكنُ , وحيثُ أرجو منَ الله أنْ أموتَ فيها وأدفنُ , لكن قائدَ الطائرةِ كانَ له وجهةٌ أخرى بعثرتْ آمالي , فقد انطلقنا تاركينَ الحبيبةَ وراءَ ظهورِنا .

وبينما أعالجُ شعوري المتصاعدُ بخيبةِ الأملِ وأنا أشاهدُ انحسارِ العمرانِ = شدَّ انتباهي خطٌ متعرّج طويلٌ تمشي فيه سيارةٌ فارهةٌ مسرعةٌ , تثيرُ خلفها سحابةً من الغبارِ , فتتبعتُ ببصري إلى أينَ يمكنُ أن ينتهيَ هذا الطريقُ الخاصّ ؟ , فإذا بمزرعةٍ كبيرةٍ مستطيلةِ الشكلِ , مليئةٍ بالأشجارِ العاليةِ , والنخيلِ الباسقةِ , والخضرةِ التي تسرُّ الناظرينَ , وبجوارها قصرٌ أبيض مهيبٌ , وحولَه حوضُ سباحةٍ كبيرٍ يتوسطُ الخضرةَ ؛ عاكسًا زرقةَ السماءِ الصافيةِ في قلبِ هذهِ اللوحةِ البديعةِ , فلازالتْ الطائرةُ تعلو وترتفعُ حتى اختفتِْ السيارةُ بغبارِها , والمزرعةُ بأشجارها , والمنطقةُ بأسرها عن عيني , وتشابهتْ المناظرُ , وما عادتْ التضاريسُ تتباينُ إلا بالألوانِ .
إلى هُنا كانَ منَ المفترضِ أن ينتهي اهتمامِي بهذا المشهدِ لكي ألتفتَ بعدَ ذلكَ لمنْ حولي , وأنعمُ برحلةِ طيرانٍ مميزةٍ ... لكنني لمْ أفعلْ !!!
فهذا المشهدُ الاعتياديُّ ـ المتوقعُ رؤيتَهُ في أيَّةِ رحلةِ طيرانٍ على وجهِ الأرضِ ـ أثارَ داخلي عاصفةً من الكلماتِ والصورِ , التي تدافعتْ في رأسي حتى جرَفتني معها لتأملٍ عميقٍ , فلمْ أزل أسيرةً لهذا التأمّلُ زمنًا , ولازالتْ الأفكارُ تتوالدُ من بعضِها البعضُ وهي تطوفُ في فلكِهِ سبعًا بعدَ سبعٍ , وكلمّا خلوتُ إلى نفسي بعدَها تذكرتُ الطائرةَ , وعادتْ الكلماتُ تعصفُ برأسي عصفًا , وهي تستحثّني على كتابتِها , فاضطررتُ أن أدوِّنها بعد رحلتي تلكَ بأيامٍ على هيئةِ خواطرَ قصيرةٍ في مفكرةِ هاتفي , وحين فرغتُ منها نسيتُها وانشغلتُ عنها تمامًا .

واليوم وبعدَ مرورِ ستّةِ أشهرٍ تقريبًا وبينما أنا أعبثُ بهاتفي عثرتُ عليها , فعادتْ الصورةُ التي رأيتُها إلى ذهني حيَّةً , وتلاحمتْ بالكلماتِ والتأملاتِ , فكأنَّ السيارةَ الفارهةَ التي تثيرُ الغبارَ خلفها لازالتْ متوجهةً إلى المزرعةِ العظيمةِ , وكأنِّي أنا لازلتُ هناكَ في الطائرةِ أتابعُها منَ النافذةِ ببصري , وأغرقُ تدريجيًا في بحرِ تأملاتي وأنا متعجبةٌ أناجي نفسي:

لو أنني هناك أقفُ على الأرضِ في أحدى زوايا هذهِ المزرعةِ لما أتيتُ ببصري على نهايتِها , ولو أنني بين أشجارِها لظننتُها جنةً لا مثيلَ لها على الأرضِ , ولو أنني داخلَ قصرِها لحالتْ جدرانُه العاليةُ بيني وبين الفضاءِ , ولخلتني ـ وأنا أقفُ في شرفاتِه أُطلُّ على حوضِ السباحةِ وما حولَه ـ أنني في امبراطوريةٍ عظيمةٍ أشاهدُ من العلياءِ أملاكي بكلِ فخرٍ !!
ولربما شمختُ بأنفي ورحتُ أختالُ في أثوابِ كبريائي متباهيةً أمامَ الناسِ بحجمِ أملاكي !!

لكنَّ الأمورَ تبدو مختلفةً تمامًا عمّا هي عليه مِنْ نافذةِ الطائرةِ !! .

فعجبًا لابن آدمَ يحيا حياتَه بأفقٍ ضيقٍ , ونظرٍ قاصرٍ , متعللاً بمحدوديةِ بصرِه , ولو شاءَ لامتطى مَا سخّرَ اللهُ له منَ الدوابِ فزادَ مسافاتٍ في مجالِ رؤيتِه , ولازْدَادَ تباعا لذلكَ مساحاتٍ في أفقِ فكرِهِ , لكنّه قلّما يفعلُ !! لأنّه يركنُ إلى الأرضِ , يركنُ إلى الأمتارِ التي يراها من الأرضِ دونَ غيرِها , وقد يعيشُ حياتَه في دوائرَ مفرغةٍ من صنعِ خياله الأسيرِ , وربما يفني عمرَهُ على أهدافَ متواضعةٍ تواضعَ نظرِهِ وتفكيرِهِ , دونَ أن يسمحَ لنفسِه بأن يرقى بفكرِه وبخيالِه قليلا ليُوسّعَ مداركَهُ !

مِن نافذتي بالطائرةِ رأيتُ مشاريعنا العظيمةَ على الأرضِ كَم تبدو تافهةً من الفضاءِ , ورأيتُ عمراننا الشامخَ وشوارعنا الجميلةَ ومدننا المزدحمةَ كيف تبدو من الأعلى كبيوتِ نملٍ متواضعةٍ !!

من نافذتي بالطائرةِ رأيتُ البشرَ كذراتٍ صغيرةٍ تتشابهُ ولا تتباينُ , لم أرَ فرقًا بين غنيِّ وفقيرٍ , وجميلٍ وقبيحٍ , وطويلٍ وقصيرٍ ... الكلُّ يتشابه !!
ألا ليتَ شعري أينَ المتكبِّرونَ الذين يضربون الأرضَ اختيالًا وتكبرًا على خلقِ اللهِ ؟؟!!
أينَ شموخُ الشامخينَ بأنوفهم من ارتفاعِ عشراتِ الأمتارِ فوقَ الأرضِ ؟؟!!
ألا من يُبلغُهم أنهم لا يُرَوْن منْ فوقِ السحابِ , فكيفَ يكونُ حجمهم من فوقِ سبعِ سمواتٍ ؟؟!!
ألا مَنْ يذكِّرُ الأغنياءَ أصحابَ المزارعِ والأراضي والعقاراتِ والأملاكِ الشاسعةِ أن مُلكَهم لا يزنُ مثقالَ ذرةٍ من ملكِ اللهِ , فلا يغترُّوا !!

ألا مَنْ يُبْلغ صاحبَ المزرعةِ ذاكَ أن مزرعَتَه العظيمةَ التي رأيتُ لم تكنْ تتجاوزُ عقلةَ أصبعٍ من أصابعي !!
ألا مَنْ يُبلغ الذين يعاقرونَ المعاصي في الظلماتِ أن الذي عصَوْهُ عظييييييييييم !!
ألا مَنْ يُبلِغُهم أنَّ اللهَ حليمٌ بنا وبهم , ولو شاءَ لأطبقَ علينا الجبالَ بذنوبنا , أو أرسلَ علينا مدًا من بحارِهِ العظيمةِ فأغرقنا بموجةٍ واحدةٍ ... ولا يُبَالي !!

أمَا واللهِ إنَّ أهلَ الأرضِ كلِّهم لوْ عصوا اللهَ وبارَزوه بالمعاصي ما هزَّ ذلكَ في ملكِهِ شيئا , ولو أنهم عبدوه ما زادَ ذلكَ في ملكِه شيئا , فما أحقرَ شأنُهم في بحارِ ملكوتِ اللهِ الشاسعةِ هذهِ !!
فهل نعي حقًا أن عبوديتَنا للهِ تاجُ مفخرةٍ أكرمنا الله بها ؟؟ وأننا واللهِ ما شكرنا الله حقَّ شكرِهِ على هذهِ النعمةَ , فضلا عمّا دونها من النعمِ ؟؟ .

متى نعي أنّنا إنّما نرقى بذكرِنا إلى الملإِ الأعلى بمقدارِ طاعتِنا وعبادتِنا للهِ , لا بمقدارِ جمالِنا ولا بماركاتِ ملابسِنا ولا بأنواعِ عطورِنا ولا بتحضُّرِنا ولا بطريقةِ كلامِنا ؟؟!!

ألا ليتَ من اغتصبَ من أخيهِ أمتارًا من أرضِهِ فتشَاحنا , أو اغتصبَ من ورثةٍ ضعافٍ بيتًا فأكلَه عليهم ؛ أَلا ليتَهُ أنْ يركبَ طائرةً ليشاهدَ ما اغتصبَهُ من ارتفاعِ أمتارٍ عن الأرضِ , ليدركَ أنَّ ثمّةَ تفاهاتٍ حقيرةٍ لا تكادُ تبلغُ السنتيمترات من ارتفاعٍ بشريٍّ بسيطٍ = تثيرُ بيننا الكثيرَ منَ الأحقادِ , والكثيرَ من العداواتِ التي قد تستمرُ أعوامًا وأعواما , بل وقد تتناقلُ عبرَ الأجيالِ !!

ألا ليتَ مَنْ يظنُّ أنَّ الدنيا ضاقتْ عليه بما رحُبَتْ حَتى أضحتْ في عينِهِ كسمِّ الخياطِ أو ربّما أضيقُ ؛ ألا ليتَهُ يستبشر , فالدنيا رحبةٌ , وأرضُ اللهِ واسعةٌ , فليهاجرْ فيها , فأينما رحلَ فثمَّ رزقُ اللهِ ونعمُه التي لا تنفدُ !.
ألا مَنْ يُبلغُ علماءَ الفضاءِ كم أنتم حمقى ومغفّلون إن لم يكن ما ترونَه من آياتِ اللهِ دافعًا لكم لتؤمِنوا باللهِ !! وكم أنتم محرومونَ إن لمْ تمرِّغوا وجوهَكم في السجودِ لخالقِ هذا الكونِ العظيمِ , الذي ترونَه يزدادُ اتساعًا في مناظيرِكم وحساباتِكم !! .

من نافذتي في الطائرةِ شعرتُ أننا ـ بالمقاييسِ المكانيّةِ ـ إلى السماءِ أقرب , مقارنةً بما نكونُ عليه ونحنُ على الأرضِ , وهالني أنَّ القُربَ مِنَ اللهِ لا يثيرُ أشواقَنا للقياهُ , ولا يثيرُ أشواقَنا للعودةِ لديارِنا الأُوَل في جناتِ النعيمِ , في جوارِ رحمنٍ رحيمٍ.

فاللهم إنّا نسألُك أن ترحمَ ضعْفَنا , وتغْفرَ ذنوبَنا , وتحسنَ ختامَنا, وترزقَنا جواركَ في مستقرِّ رحمتِكَ نحنُ وجميعُ والمسلمينَ والمسلماتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ إنكَ سميعٌ مجيبُ الدعاءِ.
وصلّى اللهُ وسلمَ على سيدِنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحْبه وسلَّم.


حرر ونشر في10/01/2013م

حِينَ وَطِأَتْ قَدَمَايَ مَغْسَلَةَ الأَمْوَاتِ!! (قصة حقيقية)


أمَام مبنًى صغيرٍ ملحقٍ بأحدِ مساجدِ القصيمِ ـ التي أزورَها لأوّل مرّةٍ في حياتي ـ توقَّفْنا وتوقَّفَ معنا سربُ السياراتِ التي كانتْ تُرافقنا, وحين تلفّتُّ أتأملُ المبنى صافحتْ عينايَ اللافتةَ الكئيبةَ التي تعلوهُ (مغسلةُ الأمواتِ... قسمُ النساءِ) فشعرتُ بقبضةٍ ورهبةٍ!.
وقبلَ أن أخطوَ خطوةً خارجَ السيارةِ؛ كان الحماسُ الذي يدفعُني لملاقاةِ جسدِ صديقتي الغالية ــ التي حالتِ الأقدارُ بين لقائي بها قبلَ وفاتِها ــ قدْ فَتُرَ وتبخّرَ دفعةً واحدةً. فرحتُ أشحذُ تماسُكي وقوّتي وأنا أحدّثُ نفسي: لقد أتيتُ من المدينةِ ومعي جارتي (صديقتُنا المشترَكةِ) فورَ سماعِنا للخبرِ لأجلِ هذهِ اللحظةِ, ..لأجلِ أن نحقّقَ أمنيتَها ـ رحمَها الله ـ في لقاءٍ يجمعُنا كما تمنتْ, صحيحٌ أنّه لقاءُ أحياءٍ بأمواتٍ لا طعمَ لهُ... لكنّه يعدُّ لقاءً!! ولطالما وعدناها بلقاءٍ!.
لقد جئنا محبّةً لها ووفاءً بصحبتِها... جئنا لأجلِ أنْ نغسِّلَ جسدَها الحبيبَ بأيدينا, ونودِّعُها قبلَ أن تُوسدَ الترابَ, بعدَ أن وَضعَ الموتُ نقطةً في آخرِ سطرٍ من كتابِ حياتها الحافلةِ بالمعاناةِ والصراعِ المريرِ مع المرضِ الخبيثِ. عافانا الله وإيّاكم وتغمّدها بواسعِ رحمتِه.
وقد كنّا ـ ثلاثتُنا ـ في يومٍ من الأيامِ نمثّلُ خيرَ صحبةٍ, وأجملَ رفقةٍ, وأروعَ جيرةٍ يحسِدنا عليها القريبُ قبلَ البعيدِ. لكنّها الأيَّامُ لا تُبقي على حالٍ. لذا لم يكنْ مستغربًا أن نُعلنَ لجميعِ معارفِها وبناتِها أنَّنا نحنُ الاثنتينِ فقط منْ سنحضرُ غسلَها.
وكمسلوبِ الإرادةِ الذي يُساق سوقًا.. اجتزتُ أنا ورفيقَتي بوابةَ المغسلةِ, وفي الداخلِ استقبلتنا امرأةٌ وقورٌ, وأمرتْنَا بنزعِ عباءَاتنا لنكون أكثرَ مرونةً في الحركةِ أثناءَ الغسلِ, ثم طلبتْ إلينا الانتظارَ على مقِاعدَ بجوارِ البوابةِ ريثما تُنهي ما بيدها, ثم غابتْ خلفَ ستارةٍ سوداءَ حالكةِ السوادِ تغطّي عنّا الأفقَ بأكملِه!.
كان المكانُ رطبًا, غريبَ الرائحةِ, والستائرَ السوداءَ كئيبةٌ كئابةَ الموتِ ذاتِه!. صوتُ بكاءٍ مكتومٍ يأتي من ركنٍ لا نبصره خلفَ الستائرِ, يتخللُّ هذا الصوتُ صوتَ قطراتِ ماءٍ منتظمةٍ توحي بأن أحدَهم لم يُكمل إغلاقَ صنبورَ الماءِ جيدًا, رائحةُ عجيبةُ أشتمّها لأولِ مرةٍ في حياتي.
لا ندري ماذا يجري وراءَ الستائرِ؟ لكن أصواتًا تحدثتْ أخيرًا إلى صاحبةِ الصوتِ الباكي ليقلنَ لها: لقد انتهينا فأخبري الرجالَ أن يستعدّوا لاستلامِها. فجاوبهُنَّ نشيجُ بكاءٍ متألمٍ لامرأةٍ متوسطةِ العمرِ وهي تقولُ: (الله يرحمكَ يا ميمتي. الله يُدخلكِ الجنّة)
وفجأةً وبدونِ مقدماتٍ اندفعَ جانبٌ من الستائرِ السوداءِ وبرزَ منه سريرٌ متحرك ٌمسجيٌّ عليه جثّةَ امرأةٍ مكفّنةٍ لا يظهرُ إلا وجهها. وَاكبَ ظهورها صوتُ دقاتٍ تتعالى على البوابةِ التي بجوارنا لأجلِ أن يُسمحَ للرجالِ بالدخولِ لاستلامِ المرأةِ. وهنا ـ لا أخفيكم ـ حدَّثتني نفسي بالفرارِ, فلأوَّل مرةٍ أرى مثلَ هذا المنظرِ, ولولا أن خلفَ المخرجِ الوحيدِ لهذا المكانِ جمهرةٌ منِ الرجالِ لما ترددتُ في الخروجِ للحظةٍ ذاهلة عن عباءَتي!
عادتْ إلينا المرأةُ التي استقبلتنا فدعتنا للدخولِ خلفَ الستائرِ حتى يتمكّنَ الرِّجالُ من أخذِ تلكَ المرأةِ, ولأجلِ أن نشرعَ في غُسلِ صديقتنا لننتهي قبلَ أذانِ الظهرِ بوقتِ كافٍ لكي نستعدَّ للصلاةِ.
كانتْ رفيقتي أولَ من دخل, وقد كانتْ جريئةً متحمسةً لرؤيةِ صديقتِنا, وكنتُ أظنْنُي ـ حتى لحظةِ دخولنا لهذا المكانِ ـ على ذاتِ الدرجةِ من الحماسِ وربما أكثر, لكنَّ الرُّعبَ دبّ بينَ جنبيَّ, حتى حُببَّ إليَّ أن تنشقَ الأرضُ فتبتلعني على أن أدخلَ هذا المكانَ المرعبِ!
دخلتُ فإذا بقاعةٍ كبيرةٍ مربعةِ الشكلِ مرتفعةِ السقفِ بها عددٌ مصفوفٌ من الطاولاتِ البيضاءِ المخرّمةِ!, الطاولاتُ في صفوفٍ متوازيةٍ, وبينَ كلِ طاولةٍ وأخرى مسافةً كافيةً من الأمتارِ. يمرُّ في أعلى المكانِ شبكةً من المواسيرِ على ارتفاعٍ يمرُّ فوقَ الرُّؤوسِ وقد عُلِّقتْ عليها خراطيمُ مياهٍ حمراءَ, وفي أرضها خطوطٌ طويلةٌ من بالوعاتُ الصرفِ الصّحيِّ حولَ كلِ طاولةٍ لأجلِ ابتلاعِ المياهِ المتناثرةِ هنا وهناكَ.
بقيتُ مسمّرةً في مكاني, أصواتُ الرِّجالِ وهم يحوقلونَ ويودِّعونَ أمَّهم كانتْ تتردّدُ بصدى في أُذنُي, رفيقتي دخلتْ إلى ركنٍ لا أبصِرُه.. ولم أقوَ أن أتُابعها ولو ببصري. ولا إراديًا تشبّثتُ بالستائرِ السوداءِ التي كرهتُها مُذْ دخلتُ المكانَ حتى لا أنهار, فإذا بها تحِنُّ عليَّ وتُبقيني أَبدو كامرأةٍ شجاعة متماسكةٍ في هذا المكانِ الكئيبِ.
خرجَ الرجالُ مصطحبينَ معهمُ الصخبَ الذي أحدثوه بدخولِهم, فسمعتُ صوتَ المغسِّلاتِ على بعدِ ثلاثِ طاولاتٍ من موقعي, لكنّي لم أجرُأ أن أمدَّ عُنقي لأبصرُهنَّ. وسمعتُ رفيقتي تبكي وهي تنادي صديقتنا وتترحمَ عليها.
بقيتُ حيثُ أنا فلقد تجمّدتْ الدماءُ في عروقي, أبصرَتْني إحدى المغسِّلاتِ, وكأنّها قرأتْ ذُعري وخوفي فجاءتْ برفقٍ تدفعُني كي أذهبَ وأسلّمَ على الميّتةِ!, ورغمَ أنَّ الصمتَ كان قد ابتلعَني إلا أنني رفضتُ عرضَها بحزمٍ أوصلتُه بكل شيءٍ إلا صوتِي, حتى بدوتُ كطفلةٍ صغيرةٍ ترفضُ أن تُقادَ إلى عقابٍ تتوقعُه, لكنَّها راحتْ تُربِّتُ علي يدي وهي تقولُ: هذه حالُ الدنيا يا ابنتي, فقط تعالي وانظري إليها ولوْ من بعيدٍ. لا أدري كيفَ خطوتُ خطوتين حتى بدا لي من بعيدٍ الجسدُ يرقدُ على إحدى الطاولاتِ,... رأتني رفيقَتي فراحتْ تردِّدُ بعربيتِها المكسَّرةِ المشوبةِ باللكنةِ الإنجليزيةِ: (تعالي يا حفصة شاهدي كيفَ وجهَها مضيءٌ, هذهِ وجوهُ أهلِ القرآنِ... تعالي سلِّمي عليها.. تعالي... ما أجملها.. أنظري إليها!).
للأسف لمْ أتحرَّك من مكاني, ولم أَلُمْ نفسي أنّنِي لم أكنْ بشجاعةِ رفيقتي, فقد كانتْ امرأةً شجاعةً منذُ قرّرتْ أن تُعلنَ إسلامَها في وجهِ أسرةٍ استراليةٍ نصرانيةٍ متشددةٍ, ثم قامتْ لفترةٍ بعدَ إسلامِها بتغسيلِ موتى المسلمينَ في إحدى مشافي سيدني رغمَ رقَّتها المتناهيةِ التي لا تناسبُ عملًا كهذا. ومن ذلكَ المكانِ روَتْ لنَا كَم رأتْ من آياتٍ عجيبةٍ يقشعرُّ لها البدنُ, فبرغمِ أنّ ثلاجةَ الموتى في المشْفَى الذي تعملُ فيه لا تفرِّقُ بين جثةِ مسلمٍ أونصرانيٍّ أو يهوديٍّ أو ملحدٍ؛ إلا أن جثثَ المسلمينَ كانتْ محصَّنةً من الدودِ الذي يخرجُ من وجوهِ وأفواهِ ومناخيرِ الجثثِ الأخرى المجاورةِ لها في نفسِ الثلاجةِ!, مما جعلَ المُوكلةُ بغسلِ جثثِ الكفارِ وإضافةِ مساحيقِ التجميلِ إلى وجوههم الكالحةِ تعلنُ إسلامَها هي الأخرى بسبِ هذه المشاهداتِ العجيبةِ!
نِداءَاتُ رفيقتي لي لم تتوقفْ, لكنني لم أستطعْ أنْ أتحركْ من مكاني, وظللتُ هناك على بُعدِ عشرةِ أمتارٍ تقريبًا حتى انتهى الغُسلُ.
شاهدتُ كلّ شيءٍ... شاهدتُ كلَّ التفاصيلِ وأنا مُسمَّرةٌ في مكاني, تعصفُ بي الأفكارُ عصفًا.
شاهدتُ من مكاني عالمًا لم أبصرُه في حياتي... فهناكَ يقفُ بكَ الزّمنُ.. وتتوقفُ أفلاككُ عن الدورانِ.. هناكَ ينتهي الكلامُ وتنتحرُ الأحلامُ... هناكَ تقصرُ الآمالُ وتوأدُ جميعُ المخططاتِ.. هناكَ تلطمُكَ الحقيقةُ, وتتعرى الحياةُ من كلِ أقنعةِ زيفِها.. هناكَ تتصاغرُ همومكَ التي كنتَ تظنُّها جبالًا فلا يبقَ إلا همٌّ واحدٌ يترددُ في ذهنِك بكلِ إلحاحٍ.. ماذا ينتظرني بعدَ هذهِ الحياةِ؟؟ أهيَ جناتُ النعيمِ أم نارُ الجحيمِ والعياذُ بالله؟؟
هناكَ في مغسلةِ الأمواتِ ترى مساراتٍ جديدةٍ ومختصرةٍ لحياتِكَ غيرَ تلكَ التي كنتَ ترسمها منذ سنين.. هناك تضطربُ جميعُ حساباتِكَ.. نظرتُك الشاعريةِ لكلِ شيءٍ في الحياةِ تنطفئُ.. ستدركُ أشياءً لم تكن تدركها من قبل.. فجسدُك ما هو إلا ثوبٌ مستعارٌ!! ستخلعه يومًا لتستلمُه منك... هوامُ الأرضُ!, روحكَ وحدَها التي كنتَ لا تسعى لتجميلها كما تسعى لتجميلِ جسدِكَ = هي التي ستبقى, بل وستُجهَّز لترتدي ثوبًا آخرَ! فأيُّ ثوبٍ هو يا تُرى؟؟
ثم إذا كان جسدُكَ ثوبًا مستعارًا.. فمن بابِ أولى أنَّ ما بينَ يديكَ من مالٍ وجاهٍ وزوجٍ وولدٍ وحظوظٍ وأملاكٍ = مستعارٌ أيضًا.
فمـــــــــــا أتفهكَ أيُّها الإنسانُ الغافلُ الأحمقُ!!
شعرتُ بخدرٍ في قدمي وغيبوبة تتسلّلُ إلى عقلي..لقد باشرنَ الغسلَ.. استسلامُ الجسدِ السلسِ لأيدي المغسلاتِ ليقلِّبنَه كيفما شِئنَ آلمنِي وأوجعَنِي وصدَمَنِي!!
كنتُ أظنُّ أنني سأظلُ الوحيدةَ التي تقرّرُ كيفَ أحرِّكُ جسدي... لكن يبدو أنني سأترُكُه يومًا لأيدٍ لا أعرفُها تقلِّبهُ كيفَما شاءتْ وأنا هناك محبوسة أسمعُهنّ... لكنني لستُ معَهنّ!.
الحركةُ مِنْ حولي كانتْ نشطةً, وخراطيمُ المياهِ كانتْ تعملُ بسخاءٍ, وأنا لازلتُ في مكاني. كم كنتُ أحتاجُ لصفعةٍ تخرجُني من ذلكَ الكابوسِ المظلمِ... من تلك القوقعةِ التي أُحشرُ فيها قسرًا. لم أعدْ أُبصرُ من الألوانِ إلا الأبيضَ والأسودَ... لا أذكرُ لونًا آخرَ إلا لونَ العشبِ الأخضرِ الذي صبَبْنَه على جسدِ الميِّتَةِ ليفركنَهُ بهِ, ومعه عَبَقَتْ رائحةٌ لا أعرفُ كنْهَهَا. لم تكنْ جميلةً.. لَا.. ليسَ هناكَ شيءٌ جميلٌ إطلاقًا, ..لكنَّها لم تكن سيئةً أيضًا.
الثِّقَلُ الذي في لسانِي تمدَّدَ وتضاعفَ, لمْ أستطعْ أن أتلَفَّظَ حتى بالدعاءِ. أحضَرنَ الأكفانَ البيضاءَ وشرعنَ في تكفينها, وأنا بدأتُ أدركُ أنني أخرجُ عن عالمي... حتمًا سأُحدِثُ ضجةً بسقوطي... سأضّطرُهنَّ ليستنجِدنَ بالرجالِ ... وعباءَتي أين هي عنّي؟؟!!
بدأتُ أقاومُ غيبوبةً تُلِّحُّ على جميعِ حواسِّي وتتسلَّقُ أسوارَ عقلي لتَبْتَلِعَهُ, فوالله لكأَنَّني أقاومُ وحشًا كاسرًا!. فخطرَ ببالي أنْ أبذلَ طاقتي للخروجِ من تلك الحالةِ بالاستغفارِ علَّ الصوتَ يخرجُ بالتدريجِ فتنفكُ عقدةَ لسانِي. فلمْ أزلْ أستغفرُ وأستغفرُ حتى خفَّ ثقلُ لساني تدريجيًا, ثم سمعتُ صوتي ينطلقُ فجأةً من سجنِه.
وكَمَنْ أَلْقَى بألواحٍ من الزجاجِ الهشِّ على رخامٍ أمْلسٍ قاسٍ فانفجرتْ وتناثرتْ = انفجرتُ وتناثرتْ دموعي من محبسِها, ثم انطلقَ لساني بما جاشَ في أعماقِي, ورحتُ أدعو وأترحَّمُ على تلك المرأةِ الصالحةِ التي كانتْ أحبَّ صديقاتي إلى قلبي, وكنتُ من أحبِّ صديقاتِها إلى قلبِها.
انتهى التكفينُ.. ودخلتْ أفواجٌ من النساءِ عليها لتودِّعها وتقبِّلَها, ولم أزلْ بعيدةً عنهنَّ أرمُقُهنَّ. أَدْخَلوا زوجَها وإحدى بناتِها فودَّعُوها وخرجوا جميعًا, ولم يبقَ إلّا أنَا وإحدى المُغَسِّلات في المغسلةِ بكبرِها, وحين شرعتْ المرأةُ بإغلاقِ الكفنِ حينَها فقط تحركتُ!... تحركتُ وصِحْتُ في المرأةِ أنِ انتظِري!...
اقتربتُ من الجسد المكفَّنِ, ووقفتُ عند رأسِ صديقتي ثم نظرتُ إليها وأنا أقاوم دموعا حارة مؤلمة, وهمستُ قائلةً بحروفٍ متلعثمةٍ, أسمعُ بعضها ويغيبُ عن السمعِ بعضُها الآخر:
صديقتي: أعلمُ أنكِ كنتِ تتوقعينَ أن أكونَ من أوائلِ من يقبِّلُ رأسكِ الحبيب قبلة الوداعِ... لكنني خائنـــــــــــــــــةٌ...
جبانـــــــــــــــةٌ...
لم أستَطِعْ...
لَم أكُنْ أعرفُ بجُبني هذا... فسَامحِيني...
لقدْ كنتُ هنا حولَك طوالَ الوقتَ... لكني كنتُ صامتةً!...
لم تغيبي عن عيني لحظةً...
لكن حالَ بيني وبينكِ حقيقةٌ لم أكنْ أعِيها حتى لحظةَ رؤيتِك على هذا الحالِ... وفي تلك الخطواتِ التي فصلتْ بيننا دارتْ معارك عنيفة تصارعتْ فيها الحقائقُ الجديدةُ مع أوهامي وأحلامي ونظرياتي القديمةِ, حتى تغلبتْ الحقيقة, فقَصُرَتْ بيني وبينكِ المسافاتُ... وهَا أنَا أتَيتُك...
أرجوكِ سامحيني..
لم أكنْ الأولى التي تطبعُ قبلة الوداع ِعلى رأسكِ, بل لم أكنْ ضمنَ الجموعِ أصلًا, لكنني..... سأكونُ الأخيرةُ.
ثُمّ طبعتُ قبلةً على جبينها وتركتُ دمعةً على وجهِها, وخرجتُ إلى الحياةِ امرأةً أُخرى بعقليةٍ أخرى تفوقُ سنواتِ عمري, ونظرةٍ جديدةٍ ذات أبعادٍ عميقةٍ...
أنا لمْ أهيلَ الترابَ على جثَّة صديقتي...
ولا أتصوَّرُ كيف تعودون ـ يا معشرَ الرجالِ ـ إلى الحياةِ بعد تجربةِ الدفنِ القاسيَةِ هذه؟؟!!!!!.
ووالله إنِّي لأحمَدُ الله الذي رحِمنا ـ نحن معشرَ النساءِ ـ من حضورِ الجنائزِ وتتبُّعِها ودفنِ الموتَى... فما أظنُّ أننا نقوى على رؤيةِ تلكَ الأهوالِ دونَ أن نصابَ بصدمةٍ عصبيةٍ, أو سكتةٍ قلبيةٍ مفاجئةٍ قبل أن يفرغَ الناسُ من مراسمِ الدفنِ.
لقد خرجتُ حقًا من مغسلةِ الأمواتِ بروحٍ مولودةٍ طاهرةٍ نقيةٍ... لكني ما لبثتُ إلَّا أنْ عُدتُ كمــــــــــــــــــــــــــا كنتُ لاهيةً غافلةً!.
فوااااحسرتاهُ على حالِنا! وإلى الله وحده المُشتكى.
لقد نسيتُ كلّ الذي رأيتُ, وأخذتْني الحياةُ في دوَّامَتِها, وشغلتْنِي بهمومِها الصغيرةِ التافهةِ قبل الكبيرةِ!, وأغرتني بمباهِجِها حتى تَجَرَّعْتُ من كأسِها الغاويةِ حتى الثُّمالة. ولا زالتْ تُكثُرُ عليَّ بخمرِهَا حينًا فأسْكَرُ, وتُمسكُ عني حينًا فأستفيقُ...
ولا أعْلَمُ متى يحينُ الأجلُ أفِي السَّكْرَةِ أمْ فِي الاستفَاقَةِ ؟؟
وهل يَقْتَضِي منِّي لأجلِ أنْ أسترجعَ كلَّ ما ممرَ بخيالي, وما شعرتُ به وما قرَّرْتُه, وما تكَشَّفَ لي من عوراتِ الحياةِ في تلكَ الّلحظاتِ = أَنْ أعودَ إلى مغسلةِ الأمواتِ ثانيةً؟؟
وهل إنْ عُدْتُ إليها ثانيةً... هل سأجَدِدُ تلكَ الذكرى وذاكَ الشعورُ ذاتُه وبنفسِ القدرِ من الحرارةِ؟؟
أم أنّني سأكونُ أكثرُ بلادةً, وسأتصرَّفُ مع الموقفِ بعدمِ اكتراثٍ؟؟
أم أنَّني لنْ أكونَ لَا هذا ولا ذاكَ... وإنَّما سأُسَجِّلُ شعورًا آخرَ لمْ أجرِّبْهُ من قبلُ...
شعورَ أنْ أكونَ أنا الميِّتَةُ بينَ يدي المُغَسِّلاتِ!!
أسألُ اللهَ أن يرحمَنا برحمتِه الواسعةِ, ويُحسنَ ختامَنا وإيَّاكُم, وألَّا يشغلنا بالدّنيا فتكونَ هي أكبرُ همِّنَا ومبلغَ علمِنا. وأَنْ يجمَعَني بِكم جميعًا في جنَّتِهِ فرِحِينَ بِما آتَانا اللهُ منَ النعيمِ الذي يدومُ ولا يزولُ. إنَّهُ وليُّ ذلكَ والقادرُ عليهِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمّدٍ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِمَ.


حرر ونشر في 10 مايو، 2012‏م
ملتقی أهل التفسير
http://vb.tafsir.net/tafsir31824/#.VPsYyRmm3qA