الأحد، 12 أبريل 2015

واكتملت أوراق البازل.. قصة طويلة بقلمي: حفصة اسكندراني ج1


 الجزء الأول:

رفع الهاتف إلى أذنه متكاسلا بعد أن أيقظه رنينه من نومه العميق بإلحاح, وبكل نبرات الهلع والخوف جاءه صوت خالته باكيا تطلب مساعدته, لقد استيقظت على صوت ارتطام ابنتها الوحيدة بالأرض, وعبثا حاولت ايقاظها من إغماءة أصابتها فزادها ذلك هلعا, وصادف أن جميع أبنائها في رحلة خارج المدينة مع أصدقاءهم, فقط هي وابنتها وحدهما بالمنزل, لذا لم تجد بدا من الاستنجاد به.
وبعد ما حاول تجميع كلماتها التي تخللها صراخ ونحيب؛ تبين له الوضع؛ فانتفض من فراشه, وارتدى ثيابه مسرعا..
 حاول أن يستوعب الموقف ويقيّمه وهو يقفز إلى سيارته..
 إنه ذاهب إلى بيتها.. إلى بيتها هي من بين بيوت هذه المدينة الواسعة..
 إنه المكان الأخير الذي ظن أن يطأه قبل رحيله للدراسة بالخارج, أو بالأصح قبل رحلة هروبه للخارج, نعم إنها رحلة هروب من الحياة ومن الواقع المؤلم, ولم يبق على رحلته إلا أياما قليلة وينطلق إلى قارة في أقاصي الأرض, لقد حزم أمتعته وودع مراتع صباه وبعضا من أحبته المخلصين, لكنه لم يتخيل أن تتاح له فرصة وداعها هي الأخرى, ترى ما الذي حدث لها؟ هل أغضبها أحدهم حتى قهرها؟ إنها رقيقة لا تحتمل أن يغضبها أحد.. لطالما كانت كذلك, ولطالما كان هو المدافع الأول عن حقوقها رغم فارق السن بينهما, كان يعتبرها قطته المدللة... لا بأس هي الآن كبرت بعض الشيء, ليس هذا فحسب بل إن استعادة هذه الذكريات لم يعد يستهويه.
أخرج زفرة من أعماقه وهو يعود للحاضر الذي يبدو أنه هو والماضي وجهان لعملة واحدة.. كلا بل وجهان للوح خشبي واحد يطفو على سطح بحر هائج؛ فتارة يظهر الحاضر ويفرض وجوده, ثم تعبث به الأمواج فيغوص ليظهر الماضي بكل تفاصيله تارة أخرى, وهكذا دواليك.
بعض الماضي يكدر الحاضر ويحيله جحيما, وقد قرر نسيان الماضي, لكن الأقدار تدفع به إلى غياهب البحر الهائج بلوحه الخشبي المتقلب..
 لكنه لن يستسلم, هو في مهمة إنسانية يجب أن يجردها من الماضي تماما, فالفتاة على ما يبدو في غيبوبة لم تستفق منها بعد.
 عاد يتساءل: ترى لم انهارت؟ بالتأكيد أنهكت نفسها وجسدها الرقيق في شراء لوازم عرسها الوشيك, أو ربما اتبعتْ حمية ما حتى تبدو أجمل في فستان زفافــــ...
مجرد تخيله لشيء من هذه التفاصيل؛ يشعر لا إراديا بالاختناق, حتى الاختناق ليس التعبير الأدق لحالته..
لقد كان سلبيا مع الأحداث بقدر كره فيه نفسه وضعفه ودفع به إلى الهروب, لا أحد يعلم ما يجيش في صدره, ولا أحد يعلم سر انزواءه وحزنه, ولا أحد يعلم سبب قراره الابتعاث رغم أنه يكره الغربة ويقدس العيش في الوطن على علاته, كان قراره قرارا مفاجئا للجميع, لقد قرر أن يكمل دراسته العليا في الخارج على نفقته الخاصة بسب انتهاءه من دراسته الجامعية منذ أعوام, لم يفض بسر هروبه لأحد, أحيانا يشعر بأن البعض يدرك ما به ويتعاطف معه بصمت, لكن أحدا لم يتجرأ ليسبر غوره ويعرف عن قلبه الكسير شيئا.. حتى هي.. إنها تجهل أمره جملة وتفصيلا, بل إنها باتت لا تعترف بوجوده في هذه الحياة, وفي أحسن الأحوال يمكن القول بأنها أصبحت تعترف بوجوده بذات القدر الذي تدرك فيه وجود الجمادات حولها خاصة بعدما خطبت, فمنذ ذلك الحين لم تعد ترسل إليه بروابط خواطرها وقصائدها التي تطلب منه نقدها تارة, أو تعلمه بنشرها تارة أخرى, وكان يحاول هو في كل مرة أن ينقد ما ترسله له لكنه ليس بكاتب ولا ناقد, فتغلبه روح الانبهار والاعجاب فيكتفي بعبارات تشجيع مجملة على إبداعاتها التي تأسره وتبهره!.. لكن هذا كله أصبح من الماضي.. لذا لا شيء يجعله يقاوم التيار!
لقد وجد نفسه يائسا مستسلما في قلب إعصار عنيف, لكنه في لحظة ما قرر أن يقاوم الغرق ويقاوم الموت بتخطيطه للهروب الأكبر, وقد قرر أنه حين ينجح في إخفاء أحزانه ومداوة جراحاته سيعود ثانية للوطن بقلب جديد, هكذا خطط.. لكنه لم يتخيل أن يطارده الإعصار قبل الهروب بإصرار وعنف فيقذف به في نقطة الارتكاز, وها هو ذا يقود سيارته مرغما إلى مصدر شقاءه وتعاسته!.
وصل إلى المنزل.. وأمام الباب كانت تقف سيارة الاسعاف التي يبدو أن خالته طلبتها قبل أن تهاتفه, شعر بوحشة وقلق بحجم الأفق يقذفان في صدره لمرأى الاسعاف, خرج من سيارته مهرولا حتى كاد يصطدم بطاقم الاسعاف وهو يدفع بالسرير نحو السيارة, وعلى السرير كان جسدها النحيل مغطى, نادته خالته فاقترب منها بخطوات آلية شاردة, فاحتضنته لتفرغ فيه شحنات من قلقها وخوفها على ابنتها ولتستمد منه القوة, وما درت أنه مذ رأى الإسعاف والسرير المغطى حتى خارت قواه.
وفي المشفى مر الوقت بطيئا حتى خرج الطبيب ومعه الأم, وبظهورهما أخرجاه من دوامة الهواجس والأشجان التي تصر على ازهاق ما تبقى منه, فطمئنته الأم أن حالة ابنتها مستقرة تحت المغذيات, وأنها إنما تعاني من ضعف في التغذية ـ تماما كما توقع ـ بالإضافة إلى هبوط شديد في الضغط, وهنا تدخل الطبيب وهو يستدير مسرعا ليفارقهما: أعتقد أن الفتاة تعرضت لصدمة ما أفقدتها توازنها!, لكنها ستكون بخير خلال ساعات, وستتجاوز الأزمة.
التفت إلى خالته وسألها: هل لازالت حزينة تبكي أباها؟
هزت رأسها بالنفي, وهي تفكر أن حزن ابنتها على والدها يبدو سببا مستبعدا, فلقد مرت خمسة أشهر على موت والدها وقد بدت فيها متماسكة وفي نفس الوقت كانت سعيدة بتأخير زفافها الذي كان مقررا قبل موته في آخر الأسبوع الذي توفي فيه, وقد صارحت والدتها بأنها لا ترغب في هذا الزواج لأنها لازالت صغيرة تحلم باستكمال دراستها بلا قيود, وأحلامها هذه انتهت مذ قرر والدها أن يفاجئ العائلة بإعلان خطبة ابنته وتحديد موعد قريب لزفافها وهي لم تزل في عامها الثاني من المرحلة الثانوية.
تمتمت الأم بعد أن عادت من شرودها مؤكدة:
 لا.. لا أظن أنها انهارت بسب فقد أبيها أبدا, فلقد مر وقت ليس بالقصير على موته, كما أنها لم تنهار لحظة فقده ولا أظنها تفعل ذلك بعد مرور هذا الوقت, ربما هو الارهاق, إنها تهمل الاهتمام بتناول الوجبات بشكل ملحوظ.
تنهد براحة لم تبلغ أعماقه التي أضحت ساحة معركة غارقة في دماء جراح قديمة تجددت وعاودت النزف ثانية, لا شيء يقلق إذن, الأمر بسيط, ساعات وستعود حبيبته إلى طبيعتها الرائعة, ساعات وستنهض كزهرة نبهت أشعة الشمس أوراقها؛ فتفتحت بدلال تنشر أريجها وبسمتها الرقراقة على الكون, ستعود حبيبته إلى عافيتها.. ستعاود نشاطها لكي.. لكي تستكمل استعدادها للزفا... هنا توقف خياله على وقع آلام روحه فعاد إلى الواقع مهرولا..
نهض إلى خالته وأمسك بيدها, لقد قرر أن يضع حدا لآلامه, لم يعد يحتمل العذاب هنا, إنه بحاجة للهروب, كل شيء بقربهما يستفزه ويتعمد إيذاء روحه, هو بحاجة لهروب صغير قبل الهروب الكبير, لقد أدمن فكرة الهروب وألفها...
 اعتذر من خالته وتعلل بخروجه كي يستعد لصلاة الفجر, وبعيد الفجر لديه موعد هام, ومن بين الدعوات التي انهالت عليه من فمها سألها إن كانت تريد شيئا وهو يتضرع إلى الله أن تطلقه حرا لوجه الله, لكنها تمتمت على استحياء بحاجتها إلى أوراق اثبات ابنتها, فقد نسيت إحضارها مع خوفها وانشغالها بالفتاة!.
تناول مفتاح المنزل بحركة آلية, إنه فصل جديد من العذاب الذي قدر عليه في هذه الليلة, سيذهب إلى بيتها وسيدخل غرفتها لأول مرة في حياته بعد أن غدت شابة ليبحث بين أغراضها عن حقيبتها! سيشاهد سريرها ووسادتها التي حلم أن يشاركها إياها, سيشم رائحة عطرها المحبب إلى قلبه في كل مكان, سيرى بصماتها هنا وهناك, وربما يتعثر أثناء بحثه عن الحقيبة بمشترياتها وملابس عرسها, ياااالله لم هو بالذات؟ ثمة أشياء يدرك المرء أنه لن يقو على تحملها قبل أن يجربها, لا شك إنه كابوس ثقيل كبيس.

يتبع الجزء الثاني بإذن الله

همسة: https://www.youtube.com/watch?v=wnK0b6fHPKM

حررت 15 جمادى الأولى 1436هـ بقلم حفصة اسكندراني

الثلاثاء، 7 أبريل 2015

هل جربت أن تحرق نصا أدبيا كتبته بنفسك؟!

هل جربت أن تحرق نصا أدبيا كتبته بنفسك؟!
صحيح أنك حين تفعل ذلك تكون ـ حتما ـ مكرها.. لكن واقعك وواقع بعض النصوص هو الذي يجبرك لتفعل ذلك رغم روعتها !

وطريقة حرق النصوص لمن أراد تجربة ذلك بسيطة:
وهي إما أن تهملها وتنساها جملة وتفصيلا.. وكأن قلمك لم يكتب حرفا منها قط.. أو أنك تعمد إلى سطورها فتقسمها.. وتعمد إلى تسلسل الأفكار فيها فتبتره.. ثم تنشر أجزائها المجزأة على دفعات, فتأتي الأجزاء بأنصاف أفكارك.. وأطراف من رؤيتك, وشتات من مشاعرك!, فتخرج كخواطر مبعثرة.. هي حتما أقل جمالا مما كانت عليه في النص الأصلي بعد أن تمزقت وحدتها, وتشتت معانيها.
وحدك أنت الذي تعلم كيف كان النص الأصلي في روعته !
ووحدك أنت الذي تتألم بإعجاب القراء بتلك الأجزاء حال نشرك لها !..
نعم تتألم بإعجابهم بها.. حالك كحال تاجر يحسن انتقاء بضاعته فيشتريها من أجود ما يُصنع, ويجمعها, ثم يشحنها إلى موطنه, ويحضرها إلى معرضه, فيحسن عرضها والعناية بها, لكن كساد الأسواق من حوله يجبره على إعلان افلاسه وبيع بضاعته بنصف الثمن,.. أتراه حين يتكاثر عليه الناس يشعر بالسعادة لمرآهم يشترون أمواله بثمن بخس حتى وإن أبدوا سعادتهم واستحسانهم لها؟! بالطبع سيتألم.

وكصاحبنا التاجر هذا أجدني أفعل ببعض قصصي ورواياتي التي أهوى كتابتها فتراني أعمد إليها فأقصقص سطورها أجزاء, وأرقع لبعض تلك الأجزاء مقدمات تجعلها مستقلة منزوعة من سياقات النص لأجل نشرها.

ولست أفعل ذلك إلا لأنني لا أملك جمهورا ولا قناة مناسبة لنشر النصوص الكاملة بشكل يحفظ لي حقوقي, فوسائل التواصل الاجتماعي الحديثة ليست المكان المناسب لنشر القصص والروايات على سبيل المثال.. لذا أقوم ويقوم الكثيرون مثلي بهدر حقوق هذه النصوص وحقوقهم ككتاب في نشر ما خطت أيديهم, كل ذلك مخافة أن تهدر حقوق نشرها فتسرق.
وحقيقة.. لست أدري أيهما أقل إيلاما؟ أن تَنشُرَ فتُسرق؟ أم تُميتَ بنفسك نتاج قلمك وتخفي تجاربك الكتابية مخافة أن تُسرق؟
المؤكد عندي أن كلاهما مؤلم..

أنا أكتب هذا وبين يدي قصة كتبتها منذ فترة قريبة ولا أدري ما أفعل بها :) لكنها في الأغلب ستلقى نفس مصير أخواتها, مع أنني أؤمن أن الكاتب يستفيد حتما من نشر كتاباته وإن اعتراها نقص كبير وخلل؛ لأن محاولاته في المرات القادمة ستكون أكثر نضجا وبلاغة وحنكة..

يبقى التنظير سهلا, وجرأتنا على تنزيل التنظير أرض الواقع تصدق ذلك أو تكذبه :)

بنت اسكندراني
حرر ونشر في 18 مارس 2015م