الجمعة، 5 ديسمبر 2014

رغم المشقة قل: سأعود يا عرفات !!


يسر الله لي الحج عندما كنتُ في الصف الأول ثانوي , وكان الحج بمثابة صدمة لي , فهو ليس كما توقعتُ وتخيلتُ , فقد خرجتُ للحج أمنّي نفسي برحلة ترفيهية , قد تشبه التخييم في البر مثلا , إلا أن حجم الجهد الذي بذلته , والإرهاق الذي لازمني , هو ما صدمني وألجمني وفاق تصوري .

وفي نهاية حجتي تلك أعلنتها جلية داخل نفسي : الحمد لله الذي جعل الحج جهاد المرأة , وفرضه علينا مرة واحدة في العمر , فإن كتب الله لي طول حياة فلن أعود لهذا الحجم الهائل من المشقة مخيّرة أبدا !!.

ومرتِ السنون , وشاء الله أن أخرج مع أحد محارمي لتوصيل أقارب لنا من المدينة إلى مكة , ليلة عرفة , فيسّر الله لنا دخول مكة , على عكس ما توقعنا , حتى أنزلناهم على بلاط الحرم المكي .

ولا أخفيكم شعرتُ حينها باشتياق يتصاعد داخلي للحج . وتفاجأتُ ونحن نولي مدبرين عائدين إلى ديارنا , بصرخة أطلقها مرافقي , اهتزت لها جنبات السيارة , فلتفتُ أرقبه وهو يقول :
( والله إنه لحرمان !! أن نصل إلى بلاط الحرم ثم نعود بلا حج ... والله إنه لحرمان ,
والله لئن كتب الله لي عمرا لأكونن مع الحجيج في العام المقبل بإذن الله ).

لقد قالها والحزن يقطر من فيه , رغم أنها ثاني أو ثالث حجة يتأخر عنها في حياته , فو الله علمتُ حينها أن الحرمان الذي يقصده إنما هو بذنب سوء نيتي في حجتي الأولى , فظللتُ ألوم نفسي وأعاتبها .

فلما كان الحج من العام القادم , وإذا بالحجيج قد فارقوا ديار المصطفى  , فبدتْ بعدهم خالية , كان من بينهم محرمي ذاك , وقد وفقه الله فأبر بقسمه , وبقيتُ بعده أمام شاشة التلفاز أتجرع مرارة الحرمان وحدي , وأنا أرقب الحجيج في منى وهم متشوقون للوقوف بعرفة في صباح الغد . تنهمر مدامعي حزنا على حالي , فأخفيها عمن حولي . وحين قلّبتُ القنوات لعلي أشغل نفسي عن تعذيبها , إذ بالشيخ عبد المحسن الأحمد يبكي وهو يتحدث حديثا عذبا مؤثرا ـ بأسلوبه الرقيق ـ عن الشوق إلى عرفات , فزادني ألما على ألم , وانهمرت أدمعي دون توقف . وأعلنتها توبة نصوحا عما حاك في نفسي من الإثم في ذلك الوقت , وحين شعرتُ بالإرهاق نهضتُ استعدادا للنوم , وأنا أوصي إخوتي بإيقاظي وقت السحور , عازمة على صيام عرفة .
وبينما نحن كذلك إذ بِطلَّة والدي الحبيب تشرق علينا , فيقول بابتسامة عريضة محببة :

من يشجعني منكم لنكون غدا مع الحجيج في صعيد عرفة ؟؟

حينها توقف قلبي وكاد ينخلع من بين أضلعي , لم أعي ما يقول , صرختُ ... فرحتُ ... بكيتُ ... لا أجزم بما حدث وقتها , غير أنها كانت سعادة لا حد لها , ولا قوة لي على ضبط مشاعري حين تلقيتها . ولا أظن مدادي سيوفيها حقها .

وبالفعل منّ الله علينا ويسر لنا التلاحم مع وفود الرحمن في صعيد عرفات قبيل عصر ذلك اليوم المبارك

وإذا بها حجة رائعة , تلذذتُ فيها بكل تعب ومشقة , وظللتُ ألهج فيها بحمد الله على ما يسر لي في آخر اللحظات ,

ولم أحرك قدمي من الصعيد الطاهر إلا وقد أعلنتُها بقوة :

( سأعود يا عرفات , سأعود ... بإذن الله )

أسأل الله أن ييسر لي ولكم ولكل مشتاق حجة مقبولة في القريب العاجل بإذن الله .

وفقنا الله وإياكم لطاعته.


حرر ونشر في 14/11/2010م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق