الثلاثاء، 22 ديسمبر 2015

من فوْقِ برجِ القاهرةِ الشاهقِ تعلمتُ درسًا..

الحياة حولنا ميدان للتعلم, وأنا وأنت.. ذلك الطالب النجيب الذي عليه أن يتعلم ويتعلم, فلا يمر علينا يوم دون أن نزداد فيه معرفة وخبرة بالحياة, وتظل الحياة تعلمنا وتصقل تجاربنا من المهد إلى أن تشيب منا الرؤوس, ومع ذلك سنظل جاهلين عن الاحاطة بعلومها ولو عشنا فيها ألف عام, فهي في كل يوم تتحفنا بالجديد حتى لو تكررت الأحداث وتشابهت, فرب زاوية تلهمك درسا لا تلهمه لك بقية الزوايا, ورب زاوية تلهمك درسا لا تلهمه لمن يشاركك النظر من ذات الزاوية.. إنها محض أقدار وهبات.

وإليكم درسا مهما بالنسبة لي علمتنيه الحياة:

اصطحبني زوجي ذات مرة وأنا حديثة عهد بزواج إلى أم الدنيا (مصر) للسياحة, وأراد أن يريني معالم القاهرة السياحية كلها دفعة واحدة قبل أن نفرد أجزاء منها بزيارات متفرقة, فأخذني إلى برج القاهرة الشامخ في سماءها, وقطعنا تذاكر الصعود لنشاهد أحياء القاهرة ومبانيها, ونهر النيل وهو يجري تحتها يغذّيها, فوقفنا في صف طويل رغم أن إجازة الصيف لم تبدأ بعد, ما يعني أن الزحام في الصيف سيكون خانقا لحد لا يوصف, وبعد وقت ليس بالقصير صعدنا مصطحبين حماسنا معنا في مصاعد البرج السريعة, بينما المرافق السياحي يمطرنا بمعلومات عن ارتفاع البرج وتاريخ بناءه, وكيف أنه يعد تحفة معمارية بناها المصريون على شكل زهرة اللوتس الفرعونية, وأنه يحتوي في أعلاه على جلسات وعدد من المطاعم و(الكفتيريات) لقضاء أوقات ممتعة داخل البرج.. الخ.

 كان جل تفكيري آنذاك.. هل ارتفاع البرج شاهق للحد الذي قد أصاب فيه بدوار يعكر علي حماسي لمشاهدة معالم القاهرة؟ وهل هذا البرج أعلى أم أسوار قلعة بودروم (سانت بيير) بتركيا والتي أشعرني ارتفاعها حين زرتها بشيء من الرهبة؟, لم تطل تكهناتي تلك فقد وصلنا عبر ممر يمر بين صالات البرج إلى حيث الشرفة, فخرجنا إلى الهواء الطلق لنشاهد القاهرة قبيل غروب الشمس.. وكانت المفاجأة!

المفاجأة حقيقة.. هي أنني ما استمتعت بتاتا في هذه الرحلة, ولا أذكر أين ذهب حماسي الذي كان من الممكن أن يدفعني لتسلق البرج فيما لو تأخرت المصاعد؟, ذكرياتي عن البرج لم تكن سعيدة بالفعل, ولا أذكر أنني استمتعت برؤية القاهرة ولا مبانيها ولا الأهرامات التي تلوح للبرج من بعيد.. ذكرياتي عن هذه الرحلة مشوشة بالفعل.. جل ما أذكره هو أنني رأيت شبابا وفتيات قد استغلوا هدوء البرج قبل موسم السياحة فجاءوا إليه مثنى مثنى, ثم إنهم قد وقفوا في جو شاعري على (درابزين) الشرفة متلاصقين, يمسك كل شاب منهم برفيقته ويهمس في أذنها ويقبلها على مرأى من الجميع وبلا خجل, تتمنع بعض الفتيات إما حياء وخجلا من الناس, أو ربما احتراما لذلك الغطاء الذي يغطي شعرهن ويفترض أنه دليل ينزههن عن هذه الدنايا..

 ومن بين هذه الجموع كانت هناك أسرة أو أسرتين بأطفالهم ويبدو على ملامحهم الضيق من هذه المشاهد, أما أنا ففوق ذاك البرج لم أشعر بمتعة.. ولا بلحظة سعادة واحدة, فقد هالني ما رأيت حتى اقشعر جسدي, هالني أنهم ليسوا أجانب فنعذرهم على هذا المجون وهذا الانحطاط.. بل إنهم عرب, وجلهم مسلمون, لكنهم ـ ويال الأسف ـ مسلمون تخلوا عن تعاليم دينهم, وعرب تخلوا عن مروءتهم وأخلاقهم!.
لقد هالني أنهم صعدوا البرج ليبتعدوا عن أعين الناس.. متناسين أنهم إلى السماء صاروا أقرب, وكأن من في السماء ـ جل في علاه ـ لا يعنيهم, إنهم يلهون ويتعدون على محارم الله وقد جعلوا الله أهون الناظرين إليهم.. فتعالى الله عن ذلك.

فوق برج القاهرة هذا لا تسل عني في تلك اللحظة فلقد بكيت وانهرت, لقد شعرت أن الله جل في علاه غاضب مما يجري, وأن عقوبة ستنزل على هذا البرج فتقتلعه في الحال, فدخلت مسرعة إلى الصالة الداخلية وأنا أصرخ بزوجي: أنزلني من هذا المكان الموبوء قبل أن يخسف الله بنا البرج!, حاول زوجي تهدئتي, فأبيت, حاول اقناعي بالجلوس في المطعم واكمال الرحلة بعيدا عن هؤلاء الشباب, فأبيت, حاول مناقشتي ليفهم ما سر خوفي واصراري الشديد على النزول؟, فأخبرته من بين شهقاتي أن الله يغضب إذا انتهكت محارمه, لذا فأنا لا أستبعد أن يُخسف بنا البرج في هذه اللحظة!.. فلم يملك أمام اصراري وانهياري إلا أن يستجيب لطلبي ويخرجني من ذلك المكان, هي لم تكن المرة الأولى التي أرى فيها مشاهد كهذه لأصدم هذه الصدمة.. فلقد مررت مع أسرتي بشواطئ للعراة في قلب مدينة اسكندرون التركية, صحيح أننا لم ندخلها.. لكننا كنا نرى المصطافين الداخلين لها كيف يبدون؟, وكم رأينا أثناء تنقلنا مشاهد أشد فحشا من ذلك, لكني غرت واحترقت غيرة وغضبا هذه المرة لأنهم كانوا عربا مسلمين, صحيح أن بينهم عربا من النصارى, لكني لا أعلم أنهم يختلفون عن المسلمين سوى في ترك الحجاب وتعليق الصليب, ثم إنهم جميعا في دولة عربية مسلمة وليس في دولة علمانية أو أوربية!, ومما زادني غضبا وألما آنذاك أنني رأيت الحجاب يذوب خجلا وذلة على بعض تلك الرؤوس!.

وحين هدأت براكيني بعد أن ابتعدنا عن المكان ظللت لأيام أفكر فيما جرى.. فها هو البرج منتصب نحو السماء لم يسقط, ولم تخسف الأرض تحته لم تتصدع, ولم تهوي عليه صاعقة غضب من السماء ولم يُحرق! بل إنه باق إلى يومنا هذا, فأيقنتُ حينها كم أن الله حليم بعباده, يُعصى فيمهل, ويُجاهر بالمعاصي فيرحم ويستر, ويُكفر بنعمه فيتفضل ويرزق, حتى إذا تاب العبد ولو بعد حين؛ تاب الله عليه ونقّاه.. فما أرحم الله! وما أحلمه!, هذا ما علمنيه هذا البرج الصامد في سماء تلك المدينة, وما رأيت هذا البرج بعد ذلك في صورة أو على شاشات التلفاز إلا وتذكرت الدرس الذي علمنيه, وتذكرت جهلي وسذاجتي يوم كنت واقفة في أعلاه, جاهلة برحمة الله وعظيم حلمه بعباده!

فاللهم إني أسألك بجميل عفوك الذي رأيتُ وببحار حلمك التي أدركتُ.. أن ترحم المسلمين والمسلمات, وتتوب على العاصين والعاصيات, وتسترنا وإياهم في الدنيا والآخرة, وتجمع كلمة المسلمين على الحق, وتقوي عزائمهم, وتصلح صفوفهم, وترهب عدوهم, وتنصرهم على من بغى عليهم, وتعيد عزتهم باتباعهم لكتابك وسنة رسولك صلى الله عليه وسلم.. برحمتك يا أرحم الراحمين.