الاثنين، 9 فبراير 2015

ومات الحلم في أروقة الجامعة... (قصة قصيرة)


خرجتْ من المنزل برفقة جدها, وبيدها أوراق هامة تحتضنها بعناية, وحين انطلقت بهما السيارة كانت تنظر عبر النافذة بشرود, إنها المدينة الساحرة التي لطالما عشقتها وعشقت أشجارها وشوارعها وبحرها الآسر, هي لم تزرها في حياتها إلا ثلاث مرات, وهذه هي المرة الرابعة, ومع ذلك سرعان ما ألفت أجوائها وأحبتها, بالطبع ليس كحبها للمدينة التي ولدت فيها.. لكنها في كل مرة تجد نفسها مسحورة يزداد تعلقها بها, وفي هذه اللحظة بالذات.. لم تكن قادرة على تذوق هذا الجمال بجميع تفاصيله.. فهي تفكر بعمق فيما ينتظرها!.

نظرت إلى جدها المستغرق في القيادة, تأملت كفيه القويتين اللتين تمردتا على تجاعيد الزمن متشبثتين بعنفوان الشباب, لقد كان جدها حريصا على انتقالها لإكمال دراستها الجامعية حيث يعيش هو وزوجته (جدتها), فهي الحفيدة الكبرى, وحجته الظاهرة أن الناس عادة تفتخر بدخول أبنائهم وأحفادهم أفضل الجامعات خاصة إذا كانوا من طبقة اجتماعية يشغلها هذا الأمر باعتباره أحد المفاخر التي تلوكها الألسن وتتناقلها, أما حجته الباطنة التي صادف أن سمعته يصرح بها لأحد أصدقائه فهي قوله: من الرائع لو أن الأحفاد عادوا إلى موطن آباءهم, فلعل عودتهم تأذن بجذب آباءهم من الغربة التي هاجروا إليها صغارا!
لقد كان بالفعل بحاجة ـ هو وزوجته ـ لمن يؤنس وحدتهما في مشوار الغروب الذي سُيّرت فيه مراكبهما, وكانت هذه فرصة مناسبة.

التفت إليها جدها وتحدث بصوته الرخيم الذي يحمل مسحة كبرياء تحكيها بزته الرسمية التي لا يخرج عادة إلا بها, وفي بعض الأحيان يرتدي ثوبا حريريا يعرف الناظر إليه أنه إنما حيك خارج تلك البلاد, قال الجد: هل تأكدتِ أن أوراقك كاملة؟
_ نعم
ربما هذه هي المرة العاشرة في ذلك الصباح التي يسأل فيها جدها هذا السؤال, وتجيبه هي بـ: نعم!

لقد انتظرت هذا اليوم البهي منذ مراهقتها فكيف تغفل عن إحضار جميع أوراقها؟!, إنها الخطوة الأولى لتحقيق حلمها الجميل, إنها متجهة إلى باب الحرية الذي سيشرق على حياتها فيغير معالمها جملة وتفصيلا.

إن ما يجذبها لهذا الحلم ليس الحياة الجامعية التي تأتي بشكل ونظام جديد يطيح بسنوات الرتابة التي سبقت الجامعة فحسب؛ وإنما ما يخطف أنفاسها ويأسر قلبها الصغير.. هي تلك الحياة الجديدة التي ستحياها خارج الجامعة أيضا, فلقد وعدها والدها بأن يشتري لها سيارة صغيرة تسهل عليها انتقالاتها, وبالطبع سيقوم جدها بحكم أنه كان تاجرا في بيع السيارات الفاخرة بانتقاء واحدة لا تقل جودة عن السيارات التي كان يتاجر فيها, بكل المقاييس.. سيكون الأمر نقلة جبارة وتغييرا جذريا في حياتها, لأنها ببساطة آتية من بلد لا يُسمع فيه صوت المرأة فضلا عن السماح لها بقيادة سيارة!

مرت السيارة بهما في شوارع كثيرة, جلّها تظلله أشجار معمرة.. كم تسحرها هذه الأشجار وتبهرها!, تذكرت مدينتها التي ولدت فيها.. فهناك لا توجد أشجار عملاقة كهذه, وليس ثمة أجواء عليلة كهذه الأجواء, ولا ثمة شواطئ غاوية تتبارى أمواجها في سباق مستمر نحو الرمال... لا شيء من هذا هناك, لكنها في الحقيقة لا تستطيع منع نفسها من عشق مسقط رأسها, ففي أعماقها حنين تكبته.. وشوق تتنكر له من أجل خوض هذه التجربة الجديدة ببريقها المبهر.

وصلت السيارة إلى سور شاهق قديم, إنه سور الجامعة, وفي إحدى كلياتها يتم تقديم الأوراق لتُدرج في التنسيق الذي بدوره يوزعّ الطلاب على الجامعات وفق درجاتهم ورغباتهم.

كانت أحلامها كبيرة.. كانت ترغب في دخول كلية العلوم السياسية فتلج السلك الدبلوماسي أو على الأقل تدرس فيها لكي تستوعب غموض عالم الساسة وصنّاع القرار, وكانت ترغب أيضا بدخول كلية الإعلام لتتخرج صحفية, حتى تحقق حلما صغيرا يراودها فتتمكن يوما من استصدار صحيفة أو مجلة أدبية تجذب إليها أقلام صغار الكتاب لتوفر لهم الفرصة التي لم تتوفر لها هي شخصيا, هذه كانت أحلامها وهذه هي رغباتها, وبعد هاتين الرغبتين يتساوى لديها كل شيء.

دلفت بجوار جدها إلى الفناء الفسيح, إنها المرة الأولى التي تدخل فيها حرما جامعيا, صحيح أنها حاولت قبل أن تسافر من مدينتها الالتحاق بإحدى الجامعات هناك, لكنهم أخبروها أنها ليست (مواطنة!) وبالتالي لا يحق لها الدراسة الجامعية حتى وإن كانت حاصلة على أعلى الدرجات!, فالتفوق والتميز لا يشفعان لصاحبه!.. هذا ما استوعبته مؤخرا حتى أنها أدمنت ترديد: تبا لك سايسبيكو اللعينة! لولاك لكان الوطن من المحيط إلى المحيط!
أبطأت خطاها عن خطوات جدها وهما يقطعان ممرا طويلا مرصوفا, وعلى جانبيه صفت شجيرات مقلمة, وفي كل الاتجاهات كانت مساحات المكان تبدو بلا نهايات.

شعرت أنها تبدو ملفتة للأنظار من نظرات التأمل التي ترشق بها من الغادي والرائح, إنها تبدو بلباسها المحتشم وعباءتها السوداء غريبة بالفعل, وقد شرحت لها عائلتها هذا الوضع جيدا حتى أنها تقبلته, هم أفهموها ألا تجعل عباءتها ونقابها حاجزا يحجزها عن مستقبلها الباهر, وألا تصطدم من نظرات الاستغراب والاستهجان, فليست وحدها التي ترتدي النقاب في الجامعة, والناس سيعتادون على شكلها مع الوقت ويألفونها,... هي تفهمت هذا كله واستوعبته بل وتجاوزته في خروجها إلى الشوارع والميادين, وفي التجمعات والأسواق, وفي الأماكن السياحية والمطاعم.. فلم يعد يمثل لها عائقا كبيرا, لكن الذي لم تتفهمه ولم تتكيف معه هو شعور الانقباض الذي سرى في صدرها منذ اجتازت بوابة الجامعة.

كانت وجهتهما بناية قصيرة من طابق واحد في نهاية الممر المرصوف, وعلى امتدادها كان هناك عدد من نوافذ الخدمة المختلفة.. وفي صف طويل ينتهي بنافذة صغيرة وقفت مع جدها, وعلى النافذة أبصرت ورقة كُتب عليها بخط رديء: المغتربون! تمتمت بألم: تبا لسايكس بيكو إنها تلاحقني أينما ذهبت! إنها تمنعني من أبسط حقوقي في كل مكان, وتقف حاجزا بيني وبين المساواة ببقية البشر بلا مبرر! فما أحمق العرب! إنهم قابلون للتقَسّم والتشرذم عند أول مناسبة, وأحيانا بلا مناسبات!.

ظلت تتلفت حولها بتعجب وهي تشعر بانزعاج شديد يطغى على جميع حواسها.. فكل التعاملات التي تجري حولها تتم بالصراخ! الجميع يتحدث بأعلى نبرة صوت يملكها, المتذمر من الوقوف يصرخ!, والذي يستفسر عن شيء يصرخ!, ومن يجيبه يضطر أيضا لمجاراته .. فيصرخ!, وتلك العجوز الشمطاء التي يبدو رأسها ذا الشعر الرمادي المخيف من النافذة.. تصرخ هي الأخرى!.. فكرت في الابتعاد والاتجاه نحو المساحات الخضراء الهادئة المحيطة بالمبنى حتى تستعيد الهدوء الذي تمجده.. لكنها ظلت متجمدة بجوار جدها بلا حراك.

مرت دقائق.. ولم يطل وقوفهما في ذلك الطابور, فقد قرر جدها أن وقوفه بين الناس لا يناسبه, فتجاوز الصفوف ودخل إلى المبنى لينجز معاملته من الداخل.. وتركها.
 في أول الأمر ظنت أنهم لن يسمحوا له بالدخول, لكن العجيب أنهم سمحوا له دونا عن الجميع, ربما هيئته هي التي تفرض احترامه, فلا يسع الناظر إليه إلا أن يحترمه, لقد عاش مخالطا لأمراء انجليز وأمراء عرب, فكأن روحه اختلطت بروحهم, فلزمته هالة لا مرئية تفرض احترام الآخرين لشخصه أينما ذهب.

تسلل إليها شعور بالقلق وعدم الارتياح لوقوفها بجوار طوابير الصارخين الناقمين على كل شيء, فابتعدت قليلا وتسللت بخفة تتأمل المساحات الخضراء الفارغة من البشر المزعجين.. إنها مليئة بصنوف الأشجار والخضرة البديعة, يتخللها ممرات تحيط بها المروج, وفي المروج ورد بهي تناثر بشكل عشوائي يدل على أنه نبت بغير زارع من البشر.

 كلما طال تأملها للفناء كلما أدركت كم كانت مخطئة حين ظنت أن تلك المساحات فارغة من البشر, فهناك عدد لا بأس به من الطلاب والطالبات متناثرين في كل الزوايا, وبين الأشجار الظليلة, وتحت الأسوار, وفوق المروج وبجوار الزهر!.. والعجيب أنهم مثنى مثنى, وكل اثنين هما عبارة عن: شاب وفتاة!
 سيل من علامات الاستفهام والتعجب دار برأسها أعقبه شعور بالانقباض انقض على فؤادها.. حتى أنها خجلت من تأمل خلوة هؤلاء فعادت تنظر إلى صفوف الواقفين أمام النوافذ.

كانت تبحث بين الفتيات الواقفات عن من تشبهها.. لكنها لم تجد, فثمة أجساد شدت عليها ألوان شتى من القماش الرقيق الذي يظهر تفاصيل ما تحته أكثر مما يخفي, رغم أن بعض الرؤوس متلفعة بما يسمى حجاب!.. ناهيك عن المساحيق التي علت الوجوه فشوهت الملامح!.
 تذكرت أنها رأت على مدخل الكلية أربع فتيات رائعات في حجاب كامل لا يظهر منهن ظفر, وقد اغتبطت بمرآهن وأكبرتهن, لكنها في نفس الوقت خشيت أن
يستنقصنها لكونها تتساهل بعض الأحيان في مسألة إبداء كفيها, وهذا يعد تساهلا لا يغتفر في قاموسهن.

طال انتظارها لجدها الذي غاب في المبنى ولم يخرج, لقد تطوع مشكورا لاصطحابها في هذ المشوار المزعج بدلا من والدها نظرا لمعرفته الجيدة بالطرق, حتما ستكون ممتنة له لعدم تركها تنجز هذه الزيارة وحدها. لفت نظرها وقوف مجموعة من الشباب والفتيات أو ما يطلق عليه (شلة) بجوار المبنى, كانوا بدورهم يحدثون جلبة أخرى يساهمون بها في سد فراغات لوحة الازعاج التي يشارك في رسمها الجميع, أخذت تختلس النظر إلى الفتيات في هذه (الشلة) وهن يقهقهن بصفاقة وجرأة عجيبة, بل وكانت منهن من تضرب كفها بكف صديقها اعجابا بما يقال, ناهيك عن فتيات تركن أناملهن بأيدي شباب عابثين تافهين!.

هذه الصور أشعرتها بالغربة.. بالضيق.. بل بشيء من الغثيان! وكم شعرت بالسخرية من نفسها فقد كان البعض يحكم عليها في مدينتها التي قدمت منها بأنها فتاة متحررة وجريئة, بل تجرأ بعضهم ووسمها بأنها فتاة غير ملتزمة ـ رغم التزامها بالحجاب الساتر ـ وذلك لمجرد أنها مرت بمرحلة أدمنت فيها سماع الأغاني, وانشغلت بمحاولات لعزف الموسيقى, وتعلم الرقص, وتتبع أخبار الوسط الفني العفن... الخ وقد منّ الله عليها بعد ذلك فتابت وأقلعت, لكن بقي الحكم عليها بالجرأة شبه ملازم لها لأنها في الحقيقة لم تكن فتاة متحجرة متقوقعة كقريناتها في المجتمع الذي تعيش فيه, فهي تجيد الكلام وتحسنه, ولا تستحي أن تحاور وتناقش, وتبدي رأيها, وتدافع عنه أمام كائن من كان (رجل كان أو امرأة), وكانت ترى حق المرأة في قيادة السيارات, وحقها في امتهان مهن أخرى غير التعليم والطب وأن ذلك لا يتنافى مع التزامها بالدين, وكانت لا تخجل من الافصاح عن رغبتها في العيش حياةً شبه مستقلة, فهي ترفض أن تعامل المرأة كقطعة أساس, أو كرأس من قطيع يجره الرجل أينما شاء, وكانت ترعب الجميع برغبتها في زواج غير تقليدي يتيح لها التعرف على شخصية زوج المستقبل بطريقة محترمة.. لتعرف كيف يفكر وكيف يتكلم وكيف يرى الحياة؟, وكانت لا تخجل كذلك من كتابة بعض القصص والخواطر في الحب العفيف.. في زمن كان الحب فيه ـ عند الملتزمين ـ جريمة!, لكنها كانت بالفعل فتاة ملتزمة ولكن بمقاييس أخرى تختلف قليلا عن المقاييس التي تحكم الفتيات حولها, فالتزامها ليس في قالب تحكمه العادات والتقاليد وإنما يحكمها فيه: ألا تغضب الله تبارك وتعالى, ومَنْ تتبع الالتزام في قوالب العادات والتقاليد أدرك أن الالتزام خارج هذه القوالب أوسع وأيسر وأجمل.

عادت إلى الواقع وهي تتأمل بعض السافرات اللواتي نزعن الحجاب عن رؤوسهن.. هن لم يكن كذلك من ثلاثة عقود مضت.. لقد نزعنه امتثالا لموجة التحرير الكبرى, وبعد التحرر من الحجاب ألبَسْنه للبقية الباقية من الحياء لديهن, حتى توارى الحياء تدريجيا من وجوههن واختمر.. فبدون كنساء الغرب, بل بدت بعض الفتيات.. مسترجلات!

 لقد أدركتْ في هذه اللحظة البون الشاسع بين البيئتين, البيئة التي قدمت منها وهي فيها جريئة متحررة, والبيئة التي تقف في قلبها فتجد نفسها فتاة ملتزمة متشددة تكاد تتقيأ من هول ما ترى من التحرر والجرأة!
مضى الوقت سريعا وقناعة واحدة تتعاظم داخلها وتصرخ: لا مكان لي هنا!!

وفي المنزل أبلغت الجميع بقرارها, لن تستكمل اجراءات التقديم ولن تعود إلى ذلك المكان من الغد, وإنما ستعود بشهادتها ومجموعها المرتفع إلى غياهب مجهول ينتظرها, ستعود إلى مسقط رأسها لتحاول ثانية رغم أنف سايكس بيكو, وهي على ثقة بالله أن الله سيعوضها ولو من طريق آخر, فحتما من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه!

وكان التحدي صعبا, ومواجهة المجتمع بقرار شاذ كهذا ليس بالأمر الهين, خاصة وأن البديل مجهول, صحيح أن والداها تفهما رغبتها, بل شعرا بارتياح لقرارها إلا أن استيعاب الناس لذلك لم يكن بالأمر السهل.

ومرت الأيام تلو الأيام وتعاقبت الشهور والسنوات.. ولا تسل عن عوض الله لها الذي أمطرها به حتى ارتوت أرضها بالبركات مذ أدارت ظهرها مبتعدة عن هذا العالم الذي لم تجد نفسها فيه, فقد منّ الله عليها فشقت طريقها مع كتاب الله تعلما وتعليما, وأكملت دراستها الجامعية (عن بعد) مرغمة؛ وأصبح شغفها بتجربة الدراسة في أروقة حرم جامعي (بعيد عن الاختلاط) حلما يتضاءل ويخبو بريقه.. حتى وصل إلى ملفات النسيان! لكنها ظلت تتألم في كل موقف ترى فيه شخصا يحرم من مواصلة أحلامه الدراسية رغم تفوقه بسبب الموجات الارتدادية الناتجة عن اتفاقية العنصرية سايكس بيكو! أو تلك الناتجة عن حركة التحرير وما تبعها من انفلات أخلاقي يجر المجتمعات نحو الهاوية.

انتهت قصتها.


بقلم حفصة اسكندراني