الأحد، 10 مارس 2024

بِأَيِّ حَالٍ جِئتَ يَا رَمَضَانُ؟!


بأي حال جئت يا رمضان؟! نحن لم نعتد قدومك هكذا؟، لم نعتد استقبالك بغصة تمنعنا من التعبير عن السعادة بلقاءك!، لم نعتد أن نكون في قوالب متجمدة بينما دواخلها تنصهر!، لسنا حزانى بقدومك!، حاشا وكلا!، بل نحن في أشد الحاجة لك، ربما أكثر من أي وقت مضى. 

في السابق كنا إذا هل هلالك احتفينا، واذا أقبلت أوقاتك سعدنا بها وانتشينا، نستنشق أنفاسك المباركة بعمق، ونستشعر البهجة التي تنشرها في أرجاء الكون، نفرح بصوت التراويح تشق جنبات أحياءنا، وتنشر الطمأنينة والسكينة في أرواحنا، نسعد بالصيام ومغالبة الجوع والعطش، ونتلذذ في الإفطار بأصناف من الخيرات والنعم. 

 كنا نستقبلك إلى عهد قريب بسعادة عارمة.. لا حد لها!، لكننا في هذا العام نستقبلك بمشاعر نعجز عن وصفها وتحديد ماهيتها، أخطئُ إن قلتُ أن شوقنا إليك قد خبى، لا والله بل ازداد!، لكنه شوقا لا نعبر عنه بالسعادة ولا بالحزن، بل هو شعور أعمق من كليهما.

ولكي نستوعب هذا الشعور العجيب؛ لنتخيل أنفسنا نتعرض لموقفين، الأول منهما:
رجل جاع طوال يومه، وانهك في عمله، ثم في المساء وُضعتْ أمامه وجبة شهية لم يكن ينتظرها.. فكيف سيكون شعوره؟ حتما سيقبل عليها بسعادة متناهية، وسيأكل منها بشغف عظيم، وسيجهز عليها وهو مستمتع بالحديث عن أشياء محببة إلى قلبه، يتخللها ضحك وصخب تعبيرا عن سعادته.

ثم في الموقف الثاني لنتخيل أن ذات الرجل قد ضاع في صحراء قاحلة وحده، ونفد منه الطعام والشراب، وذاق الأمرين، يبحث عن خيط نجأة ولا يجد، حتى قضى ليال موحشة يصارع وساوس نفسه تارة، ويقاوم عطشه وجوع بطنه تارة أخرى، ثم إذا به فجاة يجد أمامه منقذا أتى لإنقاذه، وبيديه ذات الوجبة الشهية التي قُدمتْ له في موقفه الأول، أتعلم ماذا سيفعل حينها؟ سينهار باكيا، ومن فوره سينقض عليها يلتهم قضمات منها لكنه سينخرط أثناء ذلك في بكاء مرير، ولربما سيكتفي بتناول اليسير من اللقيمات لينهمك بعدها في شرح ما لقي من الصعاب في ضياعه.. 

فقل لي بربك أليست هذه الوجبة أغلى عليه من الوجبة الأولى؟ وأنه فعليا أكثر سعادة بها من الأولى رغم أنها من ذات النوع وبنفس الكمية؟، ومع ذلك انهار باكيا في موقفه الثاني، فهل كان حزينا؟ أم كان في منطقة بين الحزن والفرح؟، فثمة شعور بين الحزن والفرح، ولربما يكون اقوى حدة وعمقا منهما. 
فمخطئ من علمنا أن هذين الشعورين متضادين وليس بينهما منطقة مشتركة قد تكون أشد عنفا ووطأة على النفس من طرفي النقيض هذين. 

فأهلا رمضان بمشاعر فرح وحزن وسعادة ومرارة واستبشار وألم، أهلا رمضان على أمة موجوعة تكالبت عليها الامم، أهلا رمضان وأهل غزة يبادون ليل نهار، وأهل السودان يزلزلون بالمصائب ليل نهار، أهلا رمضان وجراح أمتنا تنزف في كل مكان حتى أننا نعجز أن نحصيها عددا، غير أن غزة جرحنا الأقرب والأعمق. 
أهلا رمضان والجياع يتساقطون أمام أعيننا على الشاشات وهم يستنجدون بنا، نسمع صرخاتهم، نرى جراحهم، نبصر أوجاعهم، ونتأمل وجوه أيتامهم، ونرى دموع نساءهم، ونسمع عتاب شيوخهم، وندرك يوما بعد يوم خسة عدوهم. 

فبأي حال جئت يا رمضان؟ 

أرواحنا منهكة من الألم على المجازر التي لا تنتهي، ومنهكة من العجز حتى عن إيصال إبرة مسكنة أو حليب طفل أو حفنة قمح أو ربطة خبز!

كم بكينا عليهم بكاء مريرا لا يسمعون صوته ولا يرون مرارته، كم هدهدنا أطفالهم خلف الشاشات بخيالنا، وكم نطقنا بعبارات نصبر فيها الثكالى والجرحى ونهدئ من روعهم غير أن الصوت لم يتجاوز حناجرنا! ولم يصل إلى مسامعهم. 
كم ثنينا الركب أمام التلفاز طلابا تحت أقدامهم نتعلم الصبر.. نتعلم الشجاعة.. نتعلم العزة.. نتعلم حسن الظن بالله.. نتأمل كيف يحمدون الله بعد كل قصف.. وبعد كل فقد.. ومع كل نفَس! 
كيف يحبون الحياة؟ وكيف يفدون الوطن؟ 

 كم نظرنا إلى فائض الملذات التي بين أيدينا بحسرة وألم، وكم رحلنا بخيالنا نتخيل أن نخترع وسائل بسيطة تخترق العدو المتربص بهم لكي نوصل لهم بها الطعام والدواء، فتارة نتخيل بالونات ذكية نحمّلها ما لذ وطاب من الطعام، ونخبئ فيها رسائل حب لنرسم بها شيئا من السعادة على وجوههم، ثم نطلقها في الهواء فلا تهبط إلا بين أيديهم! دون أن تعصف بها رياح!، أو تسقطها أمطار! 
وتارة نتخيل طيورا قوية تشبه الحمام الزاجل في مهمته غير أنها قوية بما يكفي لحمل الطعام والدواء، فلا ينالها عدو، ولا يقدر عليها متربص، حتى تصل إلى مبتغاها، فتخفف حدة جوعهم ونقص دواءهم ووحدة قلوبهم!. 
هي أفكار تبدو مضحكة وبائسة، لكنها تعبيرا حقيقيا عن مدى العجز الذي يعصف بنا وبأفكارنا عصفا. 

فواحر قلباه يا أهل غزة.. هل أبقيتم لنا رغبة في إظهار البهجة بلقيا رمضان وأنتم مقهرون مظلمون لا تتسلل البسمة إلى وجوهكم؟ هل أبقيتم لنا رغبة في التسوق استعدادا للشهر ونحن نرى المساعدات تتساقط عليكم من السماء على استحياء لا تسمن ولا تغني من جوع؟ 
 هل أبقيتم لنا رغبة في تزيين بيوتنا ونحن نبصر خيامكم الهزيلة وهي عبثا تحاول أن تقاوم المطر و الريح؟ 
هل أبقيتم لنا رغبة في شراء حاجيات عيدنا ككل عام بينما عيدكم اتشح بالسواد وبالفقد وبالأسى؟ 
والله إنا لنخجل من راحتنا مع تعبكم، وشبعنا مع جوعكم، وأمننا مع خوفكم، وسعادتنا مع حزنكم، وضحكنا مع بكاءكم، وقوتنا مع ضعفكم، ونومنا مع قلقكم، وتطاولنا في البنيان مع انهيار أبنيتكم.
ووالله إنا ليقتلنا مجرد حياء صغاركم في طوابير الطعام حين يغطون وجوههم بالأواني التي تتضور هي الأخرى جوعا وشوقا للطعام!

فبأي حال جئت يا رمضان؟! 

اللهم إنا ظمأى فأغثنا بنصر عاجل تقهر فيه عدونا، وترد فيه أرضنا، وتطهر به قدسنا من رجس اليهود. 
اللهم إنا ظمأى فأغثنا برحمة منك ترحم بها ضعيفنا، وتداوي جريحنا، وتطعم بها جائعنا، وترحم بها صغيرنا وكبيرنا، ذكرنا وأنثانا، حينا وميتنا.. اللهم عجل بنصرك وفرجك يا أرحم الراحمين، إلهنا الى من تكلنا؟ ما لنا رب سواك فندعوا، اللهم أقر أعيننا في هذا الشهر الكريم برحمات تغشانا، تقوي بها عضدنا، وتنصر بها ضعيفنا، وترحم بها موتانا، اللهم إنك لا يعجزك شيء، فلا قوتهم ولا قهرهم ولا ظلمهم ولا عتادهم ولا جيوشهم تعجزك، فاللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعجل بهلاكهم يا قوي يا عزيز، واحفظ اللهم بلادنا هذه وسائر بلاد المسلمين من مكر الماكرين وحقد الحاقدين، وأعنا في هذا الشهر المبارك على الصيام والقيام وصالح الأعمال وتقبله منا واجعلنا فيه من الفائزين. 
 
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. 


ملاحظة هامة : رغم كل شيء فإنا نستبشر بقدوم شهر رمضان امتثالا لأمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال: ‏«قد جاءكم شهر رمضان شهرٌ مبارك، ‏كتب الله عليكم صيامه ‏فيه تُفتح أبواب الجنة ‏وتغلق فيه أبواب الجحيم ‏وتغل فيه الشياطين ‏فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر ‏من حُرِمَ خيرها فقد حُرِم»

 فمبارك علينا وعليكم وعلى الأمة الإسلامية جمعاء شهر رمضان المبارك 
وكل عام وأنتم بخير
حرر ونشر يوم الأحد الموافق ٢٩ شعبان لعام ١٤٤٥ بعيد رؤية هلال شهر رمضان المبارك من المسجد الحرام بمكة المكرمة 

حفصة اسكندراني