الثلاثاء، 28 يوليو 2015

واكتملت أوراق البازل.. قصة طويلة بقلمي: حفصة اسكندراني ج3

أحداث الجزء الأول من هنا
وأحداث الجزء الثاني من هنا

الجزء الثالث:
 تناول الأوراق فإذ بها ضمن ملف فتح على الصفحات الأخيرة منه, تناولها وهو لا يدري أنه أمام كلمات كتبتها الفتاة منذ ساعات فقط, كلمات أودعتها مكنون قلبها, وسرا من أسرار فؤادها, وجملة من أشجانها وأحزانها, وهي تعلم علم اليقين أنها لن تبرح مكانها الذي كتبت فيه, ولن تتحرك قيد أنملة خارج عالمها الخاص بها, بل في أحسن الأحوال ستقبر داخل هذا الملف, هذا إن لم يكن نهايتها الإتلاف والحرق, تماما ككل ملفاتها ورسائلها التي خطتها له, ورغم إدراكها لذلك ظلت طوال ليلها تكتب وتكتب, لا يصرفها عن الكتابة سوى مسح دمعة أو اطلاق زفرة أو الاستغراق في أعماق فكرة, فتشتد أناملها الرقيقة على القلم حينا حتى تستحيل الكتابة به نحتا, وحينا بالكاد تلامس الحروف صفحة الورق من خفتها ورقتها, إنها الرسالة الأخيرة التي ستكتبها لطيفه الذي يسكن روحها وخيالها, وما علمت أن هذه الرسالة بالذات وهذا الملف الصغير بخواطره القصيرة قد قدر له ـ دونا عن جميع ما خطت له من رسائل وخواطر وأشعار ـ أن يقع في يده هو, وبطريق يستحيل أن يخطر لها على بال.
أمسك الملف على الورقة الأخيرة منه, وألقى بجسده المنهك على الكرسي وبدأ يلتهم سطورها:
"سأمضي في طريق أرغموني على المضي فيه باستسلام ولن أحيد عنه قيد أنملة, وسأطوي صفحتك يا سيدي, ومعها سأهجر كتابة خواطر الحب وقصائده, إنها الخاطرة الأخيرة, وأفكر في الاحتفاظ بها رغم المخاطر.
فاطوي صفحتي يا سيدي وخلفها وراءك كما طويتَ ماضيك وذكريات منشأك, وقررتَ الهروب, فحقا في بعض الطي والنسيان حياة, وأرجو أن يكون لديك مستقبلا من الجرأة قدرا يجعلك تحكي حكايتك البائسة هذه لأبنائك وأحفادك, ومن عرفت من العشاق لتواسيهم وتسليهم, احكي لهم عن كيف يقتل المرء نفسه بنفسه, وكيف يمكن للتردد وعدم الثقة أن يحيل أجمل مشاعر الحب إلى واقع قهر وألم وهروب.
أما بالنسبة لي فأنا أعدك أنني سأروي قصتنا لبنياتي وحفيداتي, نعم سأرويها لهن بكل جرأة.. لكن بلا تفاصيل, سأجعلها لهم بلا ملامح ولا هوية ولا وطن ولا مطية كما هي عادتي, لكني سأستفيض في سردها, وسأحكي لهن كيف يمكن لفتاة أن تزف لرجل لا تحبه لكي تنتقم من طيف رجل تعشقه.
فوداعا أيها الهارب الملثم!"
صدمة جمدت ملامحه, بل جمدت استيعابه حتى بات مشتتا.. لم يستوعب من عباراتها حرفا, وبحركة آلية قلب الصفحات, وفي أعلى كل صفحة نقشت ذات العبارة: إلى أين ستذهب أيها العملاق الملثم؟
أغلق الملف فوجده معنونا بذات العبارة!, فعاد للصفحة الأولى وأخذ يقرأ عله يفهم شيئا:
"سأخالف عادتي وسأشرع في نثر حروفي بلا مقدمات, فلقد سئمت من المقدمات!
كل المقدمات يأتي بعدها لب المواضيع إلا مقدماتي.. ففيها أضيع, وكلما هممت الدخول إلى ما وراءها جبنت نفسي وتقهقرت!
لكني أخيرا قررت ألا أخطو في متاهة المقدمات المملة.. بل سأخطو إلى عمق آلامي مرة واحدة."
وفي الصفحة الثانية قرأ:
"لا أدري على من أشفق؟!.. أعلى ذلك العاشق المتخفي الذي يسكن داخل العملاق باستحياء أم على نفسي؟!
ليتني أملك استخراجه من داخل العملاق فألكمه حتى أدمي وجهه وحياءه المستفز..
نعم.. سأصب عليه جام غضبي لأريح العملاق من شره وأحرره من ألمه! فلقد فات أوان المصارحة والمكاشفة.. لقد فات أوان تعديل المواقف وتغيير مجاري القنوات!"
إنها خواطر قصيرة كتبت له, له هو بالفعل, لم يعد يشعر بالوقت, كان يحاول التهام الحروف دفعة واحدة ليعالج صدمة الاستيعاب التي أصابته, فلعل الصورة تتضح له مع المزيد من القراءة.
وفي صفحة أخرى قرأ:
"إلى أين ستذهب أيها العملاق الملثم؟
مسكين أنت يا قاتل نفسك ويا مشقي روحك وجسدك! مسكين أنت أيها العاشق المتخفي في ثوب اللامبالاة والجمود!
نعم يا سيدي أنت مسكين حقا! لكنك مسكين مرة واحدة أو ربما مرتين.. بينما حظي مما أنت فيه مثنى وثلاث ورباع!.
مسكين أنت.. ﻷن كلماتي التي أنثرها خواطر وأشعار هنا وهناك تأسرك وتسحرك!.. فيتمنى قلبك الرقيق لو أنها كتبت فيك أو نظمت من أجلك.
ومسكين أنت أيضا لأنك تترقب اهتمامي بك مرة بعد مرة دون جدوى.. وتراني وأنا أكيل الاهتمام لجميع الناس بسخاء فإذا ما تعلق الأمر بك رأيتَ عطائي لك من الثناء والاهتمام قد نضب، فجاءتك ردودي باردة بلا حرارة ولا طعم ولا لون..!
ﻷجل ذلك أعترف.. أنت مسكين يا سيدي وإن تظاهرتَ بغير ذلك.. وإن كتمتَ عن العالمين حقيقة ما بداخلك!.
وأما بالنسبة لي فأنا مسكينة أيضا..
وسبب شقائي يا سيدي غير سبب شقائك, ومادة بؤسي غير مادة بؤسك, وأنا أرى أن ما بي يفوق ما نزل بك ويضاهيه!

انتهى الجزء الثالث
وفي الجزء الرابع بإذن الله سنعرف سبب شقائها ومادة بؤسها.. وموقفه من هذا كله.

همسة:


حرر 23 شعبان 1436هـ

الاثنين، 27 يوليو 2015

الفراق وأصحاب القلوب المرهفة..

جهاد أن تعود نفسك على التكيف مع الحياة بعد فراقك لشخص مميز اعتدت على وجوده في حياتك..

قد يكون الفراق بسب الموت أو بسب سفر طويل أو هجر.. وكلها في نظرك مؤلمة قاسية تماما كالفراق بالموت، وكلما كان ذلك الشخص قريبا من قلبك وحضوره متكرر في ساعات يومك.. كلما كان فراقه أشد وأعسر على نفسك، وبرؤك من وعكة فراقه أشق وأبطأ.

في بعض العلاقات يمكنك أن تفصح لمن حولك عن حجم ألمك وحزنك من فراق أحدهم حتى يواسوك ويصبروك ويداووك، وفي بعضها الآخر لا يمكن أن تفصح للآخرين عن سر ألمك وحزنك، فتتألم وحدك، وتواسي نفسك بنفسك، وتضمد جراحك الدامية بيدك المنهكة، تجاهد لكي تواري دمعتك، وتكبت خواطرك, وتلجم لسانك, وتخرس قلمك.

فما أقسى الفراق وأنكده!
إنه يقذف بك في دوامة من الصراع المرير حتى تحدث نفسك حائرا: "ترى أين الخلل؟! هل من السذاجة أن نألف الناس ونعطي لهم مساحات طاهرة نقية من قلوبنا ونحن نعلم أن شبح الفراق متربص بنا وبهم؟!
هل كان من المفترض أن نحول قلوبنا تلك المضغ النقية التي تحب وتألف وتتعلق وتأنس بمن حولها إلى حجر لا يحب ولا يألف, ولا يتعلق ولا يأنس؟!"

إنها دوامة الفراق هاجس المحبين والمتجانسين روحيا..
دوامة إذا نزلت بحرث قوم أهلكته، فلم تبقي فيهم كبيرا ولا صغيرا ولا أميرا ولا وضيعا ولا ذكرا ولا أنثى إلا أسالت مدامعه وقهرته، وأحزنته وأوجعته!
وأظن أن قساة القلوب الذين يعيشون حولنا ونشهد لهم بالقسوة؛ لم تقسو قلوبهم من فراغ!, بل أغلب الظن أنهم قد شقوا يوما في حب من يخالطون ويعايشون حتى أُنهكت قلوبهم, فملّوا الحب وملّوا الناس وملّوا الحياة، لذا تراهم قد سيّجوا قلوبهم عن حب الآخرين حفظا لسلامتها من الشقاء والحزن عندما تحل قوافل الفراق بدارهم! هذا ما توصلت إليه أحلامهم كدواء وقائي من الوقوع في الحب, لكنهم للأسف وقعوا في الشراسة واللاآدمية بقسوتهم وشدتهم.

وعلى طرف النقيض منهم تظل القلوب الرقيقة التي فاضت حبا وحنانا هي الضحية، إنها سرعان ما تحب وتألف، فإذا ما فجعها الفراق في حبيب سرعان ما تنهار وتتوجع!.

فيا ليتنا نملك أن نضيف لقلوبنا ذاكرة خارجية لنحمّل عليها العلاقات الثانوية في حياتنا، فإذا حدث وأن تعلقنا بأحدهم وأحببناه ثم حال الفراق بيننا وبينه؛ تخلصنا من تلك الشريحة المحترقة دون أن تصاب قلوبنا بأدنى أذى أو ألم، لنستمر في الحياة دون انهيار أو توقف!

 فإلى من يريد أن يهنأ بحب دافئ وقلب مرهف حنون يألف الناس ويحبهم بلا خوف من الحب ومخاطره، ومصائبه ونوازله، ولا من الفراق ومآسيه، وآلامه ومواجعه؛ أقول: املأ قلبك بحب الله أولا ولا تسمح لشيء أن يستأسد بقلبك إلا هو، فما خاب من أحب الله وما شقي، ثم اجعل لأميز الناس لديك (من زوج وولد ووالدين.. وغيرهم من الأحبة) حصصا ثانوية، فإن احترقت حصصهم بموت أو فراق أو قطيعة أو خصام؛ تألم قلبك بقدر ما منحتَهم من الحصص, وبقي لك سائر القلب سليما معافا نابضا بحب الله ولاهجا بشكره على كل حال.

فاللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك والعمل الذي يبلغنا حبك، اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلينا، واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندنا، اللهم اجعل حبك أحب إلينا من أنفسنا وأهلنا ومن الماء البارد.اللهم آمين

بنت اسكندراني



حرر ونشر 10 شوال 1436ه

القيود الصارمة والروتين في حياتي!

من صغري أكره الروتين ولا أحب أن يحد من حريتي قيد..
كل قيد يوضع أمامي يخنقني ويستفزني لكسره والاطاحة به, حتى القيود الصارمة تأبى نفسي أن تعمل بموجبها مكرهة, فإذا ما كنت مُلزمةً ولا خيار لي في الخروج عنها؛ أقنعت عقلي الباطني (كاذبة) بأنني مقتنعة بهذا القيد تمام الاقتناع, وأن خيار التمرد بيدي, بيد أني لن ألوّح به!.
ولقد اكتشفت أن عقلي الباطن ساذج بقدر يسمح أن تنطلي عليه كذباتي تلك.. لذا لا بأس من التحايل عليه! المهم ألا أشعر بأني مكرهة أو مقيدة بقيد خانق!

ولقد اعتدت التنزه خارج حدود الروتين فور تسلل الملل إلى نفسي, لا أؤجل ذلك ولا أؤخره, لكني سرعان ما أعود إلى النظام ولكن بنفس منتعشة ودماء متجددة, وكم أعشق الانعطاف من المسار الاجباري لأنظر إلى زوايا أخرى لا أبصرها وأنا ملتزمة بالمسارات الاعتيادية, كما أنني أعشق الخروج عن النص لأشاغب قليلا هنا وهناك ولكني إن شاغبتُ أشاغب برفق وأدب, لذا أفضل القيود التي أتكيف معها وتناسب طبيعتي هي تلك القيود المطاطة القابلة للاتساع واحتواء فئة المشاغبين والملولين وأولئك الخارجين عن القيود بلطف.

وحين أنعطف عن المسارات الاجبارية أو أمرق عن النص لأشاغب أتعمد أن يكون ذلك تحت مرأى ومسمع صاحب القيد وصاحب النظام, فأشاغب حينها بذكاء يجعل من يشهد تسللي خارج سياج الروتين يقف حائرا بين توبيخي وبين الاكتفاء بمراقبتي بإعجاب, لأنه ببساطة يدرك أنني لست مارقة من النظام ولا متمردة عليه وإنما أنا ملولة أحب التغيير وأكره الروتين, وحتى من يفرض علي قيودا يدرك أنني إنما أضع قيودا صارمة لذاتي.. هي مبادئ أحترمها وأقدسها, منها مبادئ يمليها علي ديني, وأخرى غرسها في أبوي, ولا أحتاج مع هذه المبادئ لقيود أخرى يفرضها علي الآخرون إلا فيما ندر.


بنت اسكندراني
حرر ونشر 10 شوال 1436ه

السبت، 25 يوليو 2015

واكتملت أوراق البازل.. قصة طويلة بقلمي: حفصة اسكندراني ج2

أحداث الجزء الأول هنا


الجزء الثاني:

وفي طريقه إلى المنزل قرر أن يعطي المهمة ثلاث دقائق لتنفيذها, دقيقة منها فقط سيقضيها في غرفتها..
هو لن يتوقف ليتأمل غرفتها, ولن يقف حزينا أمام سريرها ومرآتها, ولن يعبث بمحتويات حقيبة يدها, ولن يتعثر في طريقه بمشترياتها, ولن يمسك بملف واحد من ملفاتها التي تحتضن خواطرها الأدبية وأشعارها الرائعة.. إنه في مهمة تتطلب السرعة, سيحضر الحقيبة فقط, وبقدر إبطاءه في تنفيذ هذه المهمة بقدر ما ستنكأ جراحه ويزداد ألمه.
 وبالفعل ذهب مسرعا إلى غرفتها التي لا يخطئ الطريق إليها مذ كانت صغيرة, وقبل ولوجها كتم أنفاسه لكي لا يشتم رائحة عطرها أو حتى هواء مر بأنفاسها من قبل.
 كانت هناك آثار للفوضى, ربما أحدثتها خالته المتوترة ورجال الإسعاف, دار بعينه في أثاث الغرفة بشكل آلي, لم يسمح لنفسه بالتوقف هنا أو هناك, توجه إلى مكتبها.. فثمة حقيبة ملقاة عليه بجوار أوراقها, التقطها.. وهمّ بالخروج وهو يجز على أسنانه, بدت له الحقيبة من خفتها فارغة, فخشي أن تكون كذلك, ربما عليه التأكد من عدم وجود حقيبة أخرى غيرها, عاد يبحث ببصره عن حقيبة أخرى بجوار المكتب وهو لايزال يكتم أنفاسه, لابد أن تنتهي هذه المهمة بأقل خسائر وأقل تفاصيل عن هذا المكان, وبالفعل وجد تحت المكتب حقيبتين, هل يحضر الحقائب الثلاث؟, هو لن يغامر بفتحها ليعرف أي واحدة منها المقصودة, وضع الحقائب على سطح المكتب وهو يزن كل واحدة بيده, كلها بدت متقاربة في الوزن!, انتهى الهواء من رئتيه.. هو بحاجة ليستنشق نفسا واحدا على الأقل وإلا سيختنق, لن يطول الأمر به في هذا المكان, وبالفعل أطلق لرئتيه العنان واستنشق نفسا واحدا, نفسا واحدا تسللت معه رائحة الماضي وذكرياته, لم يدخل الهواء إلى رئته بقدر ما دخل إلى عقله وحجرات الذكريات فيه جميعها, ظل كاتما أنفاسه بعدها بيأس وألم, لكنه عجز, فآلمه موقفه هذا حتى كاد يترنح, ثمة غمامة من الدمع قررت أن ترثى لحاله رغما عنه, أين سيبكي هنا؟ في غرفتها؟ رفع رأسه بيأس ليقاوم غمامة الدمع قبل أن تتضاعف, فوقع نظره على بياض شاخص أمامه في أحد الزوايا, فاعتصر عينه ليبدد غمامة الدمع فإذا به أمام فستان زفافها, إنه آخر ما كان يتوقع رؤيته في هذه الحياة, وبدون أية مقدمات.. انفجر باكيا, فلكل طاقة حد, ولكل احتمال نهاية, إنه ابتلاء فوق ما تحتمل طاقته وعقله وخياله وكيانه..
 لم يعاود النظر إلى الفستان ولم يرد أن يعرف تفاصيله, فقط.. كان يحاول مقاومة الانهيار فحسب, فقط وجد نفسه يصرخ ذاهلا: رحماك بي يا رحمن, رباااه إني أبتلى بما لا أطيق فارحمني يا رحيم!.
ولم يزل يذرف دموعه وهو مغمض العينين يناجي ربه حتى سكن, وتسللت إليه  شيء من السكينة فهدأت نفسه وأعادت إليه توازنه, فمسح دموعه التي سالت على خده وتقاطرت على ثوبه بل طالت حتى الأوراق التي على المكتب, وحين هم بالخروج لفت نظره عبارة مدون على رأس ورقة من الأوراق المتناثرة على سطح مكتبها, فتجمد مكانه, وسيطر عليه ذلك الفضول الذي عزم ألا يمكنه من نفسه, إنه اللقب المضحك التي كانت تلقبه به وهي صغيرة, وكم أحبه لأنه منها, وقد ظن أنها مع الوقت نسيت اللقب وصاحبه, ويبدو أن ظنه خاطئ فها هو ذا على رأس أوراقها الخاصة يتراقص!
قرأ العبارة كاملة وطار صوابه, إنها تسأله كما لو كانت حاضرة أمامه وترى مكانه: إلى أين ستذهب أيها العملاق الملثم؟



يتبع الجزء الثالث من القصة بإذن الله

همسة:



حررت 1 شعبان 1436هـ بقلم حفصة اسكندراني

الخميس، 16 يوليو 2015

ليلة 29 من رمضان (تراويح من أروقة المسجد النبوي الشريف)



 بعد ختم القرآن الكريم ليلة 29  من رمضان ومع انصراف الجموع من المسجد النبوي تشعر بهيبة ووحشة تثير في النفس الأشجان، فتلك الآلاف المؤلفة التي ملأت المسجد وساحاته والشوارع المحيطة به ومصليات الفنادق المطلة عليه؛ قد انفضت حتى بدت جنبات المسجد بعدهم خالية إلا من المعتكفين وبعض المصلين..

جموع ما جاءت إلا لتحي الليلة الوترية الأخيرة من رمضان بالقيام والصلاة والدعاء، طمعا في أن تكون هذه الليلة هي ليلة العتق الكبرى (في حال كانت الليلة الاخيرة من رمضان)،  فلله عتقاء في الليلة الأخيرة بقدر ما أعتق سبحان في كل ليال الشهر، وذلك بمنٍ منه وكرم..

جموع حركها الطمع في عفو الله ومغفرته، والرغبة في حضور ختم كتابه في مسجد رسوله صلى الله عليه وسلم، ومشاركة المسلمين في التأمين على الدعاء في هذه الليلة المباركة..

 حتى اذا انصرفوا بدى المسجد الشريف خاليا بعدهم أكثر من كل ليلة، ففي كل ليلة لم تخلو سجادة فيه.. ولا زاوية من زواياه من ساجد وقائم وقارئ وذاكر، ولم تشهد أرفف المصاحف فيه نشاطا وتداولا لمحتوياتها من المصاحف طوال العام كما تشهد في رمضان وبالذات في العشر الأواخر منه..

لذا لا عجب أن تبصر ملامح الحزن في كل شيء حولك، حتى في تلك الجمادات التي لو نطقت لرثت فراق الصائمين القائمين الساجدين الراكعين.

 أما المعتكفون فلهم في هذه الليلة أحوال وأحوال.. فأينما قلبت بصرك في وجوههم طالعك الحزن والألم الذي يكاد يعتصر قلوبهم، حزن على فراق رمضان، وحزن لدنو انتهاء الاعتكاف، وحزن لفراق بعضهم البعض..
دموعهم حاضرة، وألسنتهم لاهجة بأن يعيد الله عليهم هذه النعم في قابل الأعوام.. فلله درهم!
إنهم مئات من الشباب والرجال والفتيات والنساء، جاءوا للاعتكاف في المسجد النبوي الشريف، من مختلف المشارب واﻷجناس، ومع ذلك تراهم وقد صاروا لحمة واحدة، كأنهم إخوة من دم ونسب، فلقد اعتادوا تقاسم الطعام والشراب، وتشاركوا في الصيام والقيام، وتراصوا بجوار بعضهم عند النوم والراحة، قد عرفوا الكبير فيهم فوقّروه، وأحبوا البشوش فيهم وقربوه، وراعوا المريض منهم وأعانوه..
لم يَحِل بينهم اختلاف ألسنتهم واختلاف لغاتهم، فثمة لغة من الحب والمودة قد جمعت بينهم، حتى حنت القلوب على القلوب.. فسبحان من أبقى لنا صورا معجزة تذكرنا بتاريخ المسلمين الأُوُل حين آخى المصطفى عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار في صورة لم يسجل التاريخ تآلفا بين الناس أروع ولا أعظم منها.

فاللهم تقبل منا ومن المسلمين الصلاة والصيام وصالح الأعمال، اللهم ولا تحرمنا بذنوبنا من الفوز بجناتك والعتق من نيرانك برحمتك ومنتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

لمتابعة بقية الخواطر يمكنكم الاطلاع على الموضوع كاملا في ملتقى أهل التفسير:
تراويح من أروقة المسجد النبوي الشريف
http://vb.tafsir.net/tafsir40041/#.VaclBsum3qA

الجمعة، 10 يوليو 2015

الدر المنثور في مسجد رسول الله ﷺ

إن لم تكن شاهدت درا ثمينا وجوهرا لا يقدر بمال الأرض من قبل؛ فتعال وشاهده منثورا على بساط المسجد النبوي الشريف في ليال العشر الأواخر من رمضان؟

در يتلألأ.. لا تخطئه عيناك.. ولا تمل من مراقبته بكل جوارحك..

أنهم قوم لم يقعدهم الجهد والكلل بين العبادات، ولم تلههم الدنيا بملهياتها بين الصلوات، فتراهم بين المغرب والعشاء.. وبين التراويح والتهجد.. وبين التهجد والفجر؛ ركعا لله وسجدا، قد ختموا الصلاة بالصلاة، واستعدوا للصلاة بالصلاة، وأتبعوا الدعاء بالدعاء، وخللوا بتلاوة القرآن سائر أوقاتهم، فأتبعوا الختمة بالختمة، وجرى ذكر الله على ألسنتهم في كل حال.. فما أروعهم من درر!

تراهم ينتقون من المسجد أبعد زواياه عن الأعين، يستخفون من الناس خشية الرياء، فإن جاورت أحدهم وأصغيت لتلاوته العذبة.. أحصيت فيها وقفات وشهقات، يرجون رحمة ربهم ويخافون عذابه.. وهم بين الخوف والرجاء يتأرجحون، فتتبدل تباعا لذلك مشاعرهم ويتنوع دعاؤهم.

إنهم ثلة من خيار المعتكفين ومعهم ثلة أيضا من غير المعتكفين، تعرفهم بسيماهم..
أكثر الناس بكاء وعزلة، وأقلهم زادا وطعاما رغم وفرة الطعام توزيعا وشراء، لكنهم آثروا اشباع حاجات الروح من روحانيات هذه الليالي المباركات على حاجات الجسد، ولا يجتمع اشباع جسد مع اشباع روح، فإن أشبعت الروح شغلتك عن الجسد، وإن أشبعت الجسد شغلك عن الروح.. فلله درهم.. هم زينة المسجد النبوي الشريف وجوهره.

فاللهم كما اصطفيتهم و فضلتهم على كثير من الناس بالعبادة والصلاة في هذه البقعة المباركة بينما غيرهم منغمس في الحياة وهائم في الأسواق.. فأتمم عليهم نعمك ظاهرة وباطنة وأكرمهم بالفوز والقبول والعتق من النيران.

اللهم آمين
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

حفصة اسكندراني

ترَاوِيح مِن أَرْوِقَةِ المَسْجِدِ النَّبَويِّ الشَّرِيفِ
http://vb.tafsir.net/tafsir40041/#.VZ_Risum3qA

الثلاثاء، 7 يوليو 2015

في المسجد النبوي الشريف ثمة أقوام قد احدودبت ظهورهم وأضاء الشيب رؤوسهم...

في المسجد النبوي الشريف ثمة أقوام قد بلغوا من العمر مبلغا يعيقهم عن الوصول إلى المساجد, أناس قد احدودبت ظهورهم, وأضاء الشيب رؤوسهم, ووهنت عظامهم, وقصرت خطاهم, وارتجفت أطرافهم, ومع ذلك تجدهم من المشّائين إلى الحرم, السبّاقين إلى الصفوف الأُول!
تراهم وأنت تتعكز بكسل على شبابك لتقوم إلى الصلاة قد هبوا قبل الإقامة وانتظروها واقفين, قوم تعلقت قلوبهم بالصلاة, "لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)".
وفي رمضان تجدهم قد أتوا إلى المسجد النبوي والشوق سابقهم إلى الصلاة والتهجد والقيام, وكلما سلّم الإمام من ركعتين هبوا للحاق بتكبيرة الإحرام, لا يشغلهم شاغل, ولا يصرفهم عن الصلاة صارف, قد حلقت أرواحهم نشيطة في محراب عبادة الله ساجدة وقائمة, لا يكدر نشاطها سوى ذلك الجسد الدنيوي الذي يشدها إلى الأرض بعد أن شاخ وضعف, فيخجل شبابك من شيبهم, وتغار عظامك الكسلى من ضراوة وإصرار عظامهم.
فلله درهم.. هم بركة بين المصلين بإخلاصهم وحسن عبادتهم, وهم عظة للشباب بحرصهم ونشاطهم.
فاللهم ارحم ضعفنا وضعفهم, وأعنا وإياهم والمسلمين على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك على الوجه الذي يرضيك عنا.


ترَاوِيح مِن أَرْوِقَةِ المَسْجِدِ النَّبَويِّ الشَّرِيفِ ملتقى أهل التفسير

العتقُ مِن النّار.. هَل هُو أَحَد أَهدَافِك الجادّةُ في هذِه الحَياةِ؟

في هذه الحياة ثمة أهداف نسعى ورائها ونلهث, نبذل في سبيل تحقيقها الغالي والثمين, نجعلها نصب أعيننا في قائمةٍ طويلة يتقدم بعضها على بعض وفق أهميته في حياتنا, هذه الأهمية تملي علينا خطواتنا القادمة, وقراراتنا الهامة, وشكل حياتنا المستقبلية.
ومن هنا أتساءل ـ أخي الكريم/ أختي الكريمة ـ ترى هل النجاة من النار واحد من أهدافنا الجادة في هذه الحياة؟, اسأل نفسك وصارحها: هل العتق من النار هدف له أولوية في حياتي؟
أعتقد أن الجواب العفوي المتسرع ليس هو ما أرمي إليه من وراء سؤالي, فجميعنا نرجو العتق من النار, لا يشذ منا أحد, لكن إدراكنا العميق لأهمية أي هدف في حياتنا سيجعلنا نعيد ترتيب قائمة أهدافنا لنمنحه أولوية؛ سيترتب عليها النهوض لعملٍ حثيث وجاد من أجل تحقيقه.
لذا أيها القارئ الكريم.. ـ يا من ترجو من الله أن يجيرك من النار ـ أنت بحاجة لوقفة قصيرة مع نفسك لتقيم هذا الهدف, لكي تستوعب: ماذا يعني لو أن الله استجاب دعاءك فكتبك في ليلة من ليال هذا الشهر من عتقاءه من النار؟
ألا تبدو لك أنها أعظم منحة أو مكرمة يمكن أن تحصل عليها في حياتك؟!
إنها وثيقة للنجاة من النار.. وأي شيء أخوف عليك من دخول النار؟! (عافانا الله واياكم)
إنها مستقر الفسقة والكافرين, وعذاب الجبابرة والآثمين, يصلاها كل من بارز الله بالمعاصي, وأنكر البعث والنشور, وقدم الفانية على الباقية, وهي أيضا مقلقةُ مضاجعِ المتقين, ومرهبةُ قلوب التوابين, فما من عبد يؤمن بالله حق الإيمان إلا وخوفه من غضب الله وعذابه هاجس يشغله, يكدر عليه لذة المعصية, ويورثه الانكسار بين يدي الله طلبا لرضاه والنجاة من عذابه, ولا عجب.. فالنار مخيفة مرعبة, تحوي أنواعا من أشد العذاب وأغربه وأفتكه، وبها من الأهوال فوق ما تدرك عقولنا وتستوعب, ويكفيك فقط أن تتأمل أقل الناس عذابا فيها حتى تدرك أنها أكبر خطر يتربص بك.. قال : ( إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراكان من نار، يغلي منهما دماغه كما يغل المرجل، ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا، وإنه لأهونهم عذابا )!!
فأي كابوس أعظم منها؟ وأي بلاء أشد على ابن آدم منها؟
لقد تاقت نفوسنا وفاضت أعيننا ونحن نقرأ في سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام, أنه بشّر رجالا من الصحابة بمكرمة دخول الجنة وهم لازالوا على الأرض يمشون!, لكن هذه المكرمات نفدت بانقطاع وحي السماء بعد وفاته عليه الصلاة والسلام, ومع ذلك فإن الله  رؤوف رحيم بنا, فقد أبقى لعباده بابا عظيما للفوز في هذه الحياة, ألا وهو الفوز بمكرمة النجاة من النار في شهر الغفران, فلله عتقاء من النار وذلك كل ليلة من ليال رمضان!, وسيظل هذا الباب المبارك مشرّع لكل أحد, حتى يسع العاصي والفاجر إن هو تاب, ويسع أكثر أهل الأرض ذنوبا وظلما إن هم أقبلوا, فرغم أنف من أدرك رمضان ثم لم يغفر له.
اللهم اعتق رقابنا ورقاب آباءنا وأمهاتنا وأزواجنا واخواننا وذرارينا وأقاربنا وجميع أحبتنا من النار، واجعلنا وإياهم هداة مهتدين صالحين مصلحين, برحمتك يا أرحم الراحمين.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

ملتقى أهل التفسير

مزمار من مزامير آل داود في زمننا... (الشيخ محمد أيوب إمام المسجد النبوي الشريف)

اصطف المصلون في المسجد النبوي الشريف مبتهجين, فها هي قد أقبلت أولى ليالي شهر رمضان المبارك لعام ألف وأربعمائة وستة وثلاثين, ولا شيء يشبه روعة الاصطفاف للصلاة في هذا الزمان المبارك, وفي ذلك المكان الطاهر؛ مسجد رسول الله ..
وبعد لحظات كبّر الإمام, وانسابت آيات الفاتحة بصوت غريب يشوبه الرهبة!!!, إنه صوت آت من أعماق الماضي, لا تسمعه بأذنيك فحسب وإنما تصغي إليه بجميع جوارحك, صوت رخيم محبب إلى القلب, قد أقبل في موكب مهيب يزفه الحنين, وإذ بذكريات الماضي المنزوية في قلبك وذاكرتك قد نُشرت من مرقدها, يتدافع بعضها ببعض, وينبثق بعضها من بعض, فتحملك إلى الماضي.. فتنصتَ لذات الصوت العذب في ذات المكان ولكن قبل عشرين سنة أو يزيد, تستمتع بتلاوة يهتز لها جنبات المسجد النبوي القديم وما حوله من مصليات ملحقة به (المظلات قبل التوسعة), وكلما رفعتَ بصرك شعرتَ بعظمة وأنت تشاهد أمواج البشر المصطفة للقيام, لا يحط من عزمها تلك المراوح الهزيلة التي تكاد لا تحرك الهواء (قبل تكييف الحرم), ولا يعيقها تعب الأجساد, ولا قرب الأسواق في زمن رواج التجارات, فكل شيء يتصاغر إذا ما كبّر هذا الإمام بصوته الخاشع للقيام.
وبالمقام الحجازي الآسر المحبب إلى القلوب؛ يتداخل ماضيك بحاضرك.. لتعود للحظتك, فتدرك أن إمامك إنما هو الشيخ محمد أيوب, مزمار من مزامير آل داود في زمننا الحاضر, مزمار ترنم بتلاوة القرآن في محراب المسجد النبوي الشريف قبل تسعة عشر عاما, إنه الصوت الندي الذي اشتاق لسماعه أهل المدينة وأحبوه, صوت عذب يريح القلب, ويطلق الفكر في تدبر ما يُتلى من آيات.
فاللهم متع عبدك محمد أيوب بالنعيم في الدنيا والآخرة كما أمتع المصلين بتلاوته زمنا, وأمده اللهم بالصحة والعافية, ولا تخذله في موطن يحب ألا يخذل فيه.

ترَاوِيح مِن أَرْوِقَةِ المَسْجِدِ النَّبَويِّ الشَّرِيفِ ملتقى أهل التفسير