الأحد، 7 مايو 2017

حتما هناك ما هو أسوأ !! (قصة قصيرة بها عبرة) بقلم/ حفصة اسكندراني

على صوت تلامس صحن القهوة بسطح الطاولة التي بجوار سريره.. انتبه!
طوى الجريدة المثقلة بمآسي الأمة مع حفنة من التفاهات التي لا تتناسب مع تلك المآسي, ثم اعتدل.
تعلقت عيناه بالقهوة التي لازالت تدور دوامتها في الفنجان.. غمغم بالشكر في صوت خفيض!
بدا شكره روتينيا للدرجة التي لا تستدعي الرد عليه!
قال وعيناه لازالت ترقب القهوة:
رجاء أحضري لي لحافا إضافيا, فيبدو أن الشتاء يصر أن يدكك قواي!
وفي زاوية من الغرفة كنتُ هناك أرقبه وأنا أبدو متشاغلا بحاسوبي.
تحركتْ جدتي الحبيبة لتحضر له طلبه, ومرّت على المدفئة لترفع درجة حرارتها, بينما مدّ هو ذراعه ليتناول عُلب الدواء من جوار سريره!.
وفي حركات روتينية منتظمة راح يخرج قرصا أو اثنين من كل علبة ثم يعيدها إلى مكانها بدقة.
العلبة الأولى كانت من دواء يعدُّه رفيق مرضه أو بالأحرى رفيق دربه.. بالأمس فقط عرفني عليه, وقال أنه يعرفه من قبل أن يعرف زوجته!
إنه يتناول الدواء ليس من أجل الشفاء وإنما ليحافظ على ما تبقى من صحته من التدهور!
لا دواء على وجه البسيطة قد صنفه البشر لعلاج مرضه الذي أصابه منذ أن كان في الثانية عشر من عمره, ربما في المعامل تجري تجارب على تركيبات دوائية تشفي من دائه, لكننا لا ندري هل يمتد عمره ليدركها أم لا؟ وهل إن لحقها سيكون بإمكانها أن تعيد عليه شبابه الذي فاته الاستمتاع به؟
أخبرني ذات يوم بأن مجموع ما تناوله من الحبوب في حياته قد يوازي انتاج مصنع دواء بكامل طاقته الانتاجية لمدة سنة!! وبابتسامة دافئة أضاف: أنا عميل مميز ـ بلا شك ـ لشركات الدواء!.
تناول كأس الماء الذي بجوار قهوته التركية التي يهوى تناولها قبل النوم؛ لأنها تساعده على النوم, على عكس الآخرين!
ابتلع مع الماء الأقراص التي أخرجها واحدا تلو الآخر!, فهو لا يحب أن يزحم حلقه بها دفعة واحدة!.
 أعاد الكأس مكانه, وعاد ليفتح المزيد من علب الدواء؛ ليخرج المزيد من الأقراص!
لم أكن أهوى مراقبته قبل ذلك, لكن حديثنا بالأمس كان حاضرا في ذهني بعد أن ترك بداخلي أثرا عميقا, حتى أنني لم أعد ساخطا على الجبيرة التي قيّدتْ رجلي منذ شهرين, ولولاها لما كنتُ بقيتُ في المنزل لحظة واحدة.
حين تنزل بنا المصائب عادة لا نعي أن في طياتها نعمة سنحصل عليها, وقد تكون هذه المصيبة نقطة تحول في حياتنا وتفكيرنا إلى الأحسن.. هذا ما أدركته بالأمس فقط.
كانت ذكريات الحادث الذي أصابني كابوس يلاحقني يوميا, فأجدني في قلب إعصارٍ عاصفٍ, وقد تبعثرَ كياني, ولم أعدْ أبصرُ من الكونِ سوى دوائرَ ذلك الاعصارِ المتلاحقةِ.. اعصارٌ لا مرئيٌّ.. وحدي أنا من أبصره, ووحدي أنا من علي مصارعتُه والمكافحة للخروج من أعماقه, فجهاد أن تعود نفسك على التكيف مع الحياة بعد فقدك ـ ولو فقدا مؤقتا ـ لشيء مميز اعتدت على وجوده في حياتك.
لقد أُجريتْ لي عمليات في ركبتي وفي عظام الفخذ لأجل أن تعود رجلي قادرة على حملي مرة أخرى, ولازال أمامي بعض الوقت لكي أتماثل للشفاء, لذا كانت نفسيتي مهترئة ومحطمة قبل وبعد كل عملية أجريها, فحقا أنا في دهليز من دهاليز هذه الحياة, فقد أخبرني جدي في أيامي الأولى التي لزمت فيها المشفى, أنه ثمة دهاليز في الحياة, لكننا لا نبصرها, ولا نشعر بوجودها إلا لحظة ولوجنا فيها, وفي هذه الدهاليز لا نرى ضوء الشمس ولا موج البحر ولا نبض العشق, فقط نشتم رائحة الطين الممزوجة باليأس!, بعض الدهاليز سطحية وقصيرة, ندخلها سريعا لنخرج بعد ذلك فننساها, وبعضها يأبى إلا أن يعلق في ذاكرتنا بطولِهِ وشدة ظلمته!. لكن عربة الحياة ستمضي بنا مسرعة وهي تطوي تحتنا مسافات الحاضر طيا، كل ما نبصره في الأفق البعيد لا يلبث أن يكون حاضرا، وكل حاضر جميلا كان أم مؤلما؛ فإن سرعة عربة الحياة كفيلة بدفعه إلى غياهب الماضي العميق لتبتلعه فيصبح مجرد ذكرى!.
أعاد جدي العلب إلى مكانها وبين يديه أقراص أخرى! ورائحة القهوة تعبق بالمكان, تحثّ حواسه على سرعة احتسائها, وجدتي لازالت تعبث في خزانة الملابس في أقصى الغرفة, فتحدث ضجة خفيفة, اختلطتْ بأصوات خافتة تنبعث من الشارع المتجمد خلف النافذة, يتخللها صمت الليل الذي يحاول فرض سيطرته على الأجواء بلا يأس ولا استسلام!
معرفة مواعيد الدواء فنّ بات يتقنه, ويستحق عليه جائزة في الدقة والتنظيم, لقد أخبرني بكل مرح أنه فكر أكثر من مرة في أن يكتب طريقته في تنظيم الدواء للمرضى الذين يسأمون من كثرة ما يخلطون بين مواعيد الأدوية التي يتناولونها!
وبحماس وروح مشرقة راح يشرح لي الطريقة قائلا: الأمر ببساطة إعداد ثلاث أو أربع مجموعات من الأدوية مقسمة على أوقاتها, وبالطبع هناك أدوية تكرر في اليوم مرتين أو ثلاث مرات ومع ذلك يُوضع لها في كل مجموعة علبة مختلفة, ومع كل مجموعة منبّه إلكتروني صغير خاص بها, يدق في الوقت المخصص لتناولها, وهناك ورقة أنيقة داخل كل مجموعة, محدّد فيها أسماء الأدوية وجرعاتها.
حماسه وهو يحكي طريقة تنظيمه للدواء تشعرك بأنه يستحق أن يسجل عليه براءة اختراع!
جدي ليس كهلا كما يتبادر إلى الذهن, بل هو جدّ صغير, لا زال في بدايات الخمسين من عمره, وعادة الناس يبدأون في مثل هذا العمر رحلتهم مع الأمراض, لكنه بدأ مع المرض في سنّ مبكر جدا.
ابتلع الأقراص جميعها ثم عاد إلى ذات المجموعة ليكمل ما بدأ.. أخرج أربعة أقراص أخرى من علبها, ثم أعاد العلب إلى مكانها.
خمسة عشر قرصا هي حصته من هذه المجموعة المسائية! هذا ما أخبرنيه بالأمس حين رآني أتأفف من نسياني المستمر لثلاثة أقراص كتبها الطبيب لي!, حينها تبسم لي بحنان وقال:
"يا بني أتعلم؟ عندما كنتُ في بدايات شبابي كنتُ أتناول سبعة أقراص فقط, لكني كنتُ في كل مرة أتناولها أتضجر من حالي ومن كثرة تناولي للدواء، وكنتُ أتساءل دائما بسخط وتهكم: ترى هل هناك ما هو أسوأ من ذلك؟ وكلما تقدم بي العمر علمتُ أن هناك ما هو أسوأ!.
صحيح أني لم أصب بانتكاسة صحية خطيرة تدهورتْ على إثرها صحتي لأعرف أن هناك ما هو أسوأ ـ في المشافي أو في غرف الإنعاش أو في بيوت تحت الحصار والقصف،  أو في بيوت فقراء لا يجدون ثمن الدواء ـ إلا أن تزايد عدد حصتي من الأقراص في كل مرة كانت إجابةً واضحة لسؤالي، فهناك حتما ما هو أسوأ!".
لقد مضت سنوات من عمره وهو ناقمٌ على صحته التي لا تماثل صحة أقرانه, ولازالتْ صحته في تدهور نسبي, وهو معها في حسرة تتزايد, حتى بلغ الأربعين ـ كما أخبرني ـ, حينها أيقن أن هناك ما هو أسوأ, فكفّ عن تكرار هذا التساؤل كل يوم, واستبدله بقول: الحمد لله!, ثم مال علي بصوت خفيض وأضاف: ما أعذبها من كلمة! الحمد لله في كل حال, فما أكثر نعمه!, وكم نضيع  من أعمارنا في سوء الظن بالله, ثم ندرك حين ننضج أننا إنما نرفل في بحار نعمه!
أخيرا انتهى جدي من حصة الدواء المسائية, وتناول بكلتا يديه فنجان القهوة الذي لفظ آخر أنفاسه من البخار المتصاعد!, وعاد إلى الاتكاء على وسادته في اللحظة التي عادت فيها جدتي بلحاف إضافي؛ ليغطي عظامه التي تصطك خلاياها باحثة عن الدفء, رغم أن الجو ليس بهذه البرودة التي تستدعي ذلك, لكنه المرض!
كم بتّ أشفق عليه, لكنها شفقة يخالطها إعجاب, فهو إنسان رائع لا يرى أن هناك أمراض أسوأ من مرضه فحسب, بل بأفقه الواسع الناضج يرى أن فقدان الأمن أسوأ, وأن الجوع والفقر المقدع أسوأ, وأن ضياع الأمة وانصرافها عن دينها أسوأ, وأن غلبة الأعداء وتعديهم على مقدسات الإسلام أسوأ وأسوأ, وثمة أشياء كثيرة يسردها لك هي أسوأ من مرضه, ولا تملك حينها ألا أن تشعر أننا جميعا بعافية تامة وليس بنا بأس.
لازالتْ كلماته تتردد في مسمعي وهو يقول: "عجبًا لابن آدمَ يحيا حياتَه بأفقٍ ضيقٍ, ونظرٍ قاصرٍ, متعللاً بمحدوديةِ بصرِه, فيركنُ إلى الأمتارِ التي يراها من الأرضِ دونَ غيرِها, وكأن الأرض هي الجزء الضئيل الذي يراه ويعيش فيه, لذا هو للأسف يعيشُ حياتَه في دوائرَ مفرغةٍ من صنعِ خياله الأسيرِ؛ لا يستبصر الحكم, ولا يرى النعم, ولو فعل لعاش في رضى عن أقدار ربه وسعادة".
حينها نظرتُ اليه بحزن أسترجع بيني وبين نفسي حالي وسخطي على ما أصابني, فأضاف: "أكبر خسارة يا صغيري أن تخسر الله سبحانه وتعالى, وأن تكون في سخط عليه وعدم رضى, ومع ذلك أروع ما في هذه العلاقة أنك إن أتيت الله معترفا بخطئك وسوء ظنك فيه؛ عفا عنك ولا يبالي, فعلاقتنا بالله هي أرقى العلاقات, بينما أصعب العلاقات وأكثرها تعقيدا هي تلك التي بين بني البشر بعضهم بعضا, ذلك لأنها محكومة بعادات وعقليات متفاوتة في الفهم والإدراك, وموكلة إلى نفسيات متقلبة هي غاية في التعقيد والغموض, لذا تجد الخطأ في حق أحدهم مشكلة كبرى قد لا تُغتفر, وقد تقضي الزلة الواحدة على أجمل العلاقات, فتشقي قلبين؛ قلبٌ لم يتوقع الخطأ من صاحبه, لذا جُرح كبرياؤه حتى النخاع, وقلبٌ مخطئ يدرك فداحة خطئه, فتراه يكد ويشقى من أجل محو هذا الخطأ, والرجوع إلى ما وراءه, لاستعادة العلاقة بينه وبين الطرف الآخر, قد ينجح وقد لا ينجح, وربما يبقى طوال عمره يستجدي الغفران ولا سبيل إلى ما يشتهي.
أما مع الله فليس ثمة خطأ لا يغتفر, كل خطأ ـ صغر أم كبر ـ له ما يمحوه, وخلفه طرق للعودة, ومحطات للبدايات, ودروب للانعطاف إلى الطرق الرئيسية, وثمة أثواب تُنزع, وأثواب نقية تُمنح, ليس بها من شوائب الماضي شيء, ذلك لأن الله عز وجل رحيم بعباده".
استفقتُ من شرودي على نظرات جدي التي يصوبها نحوي, وبابتسامته الدافئة وصوته الحنون قال: "مؤلم أن يصرخ جسدك يريد الدفء بينما الجو يبدو معتدلا للآخرين, ومع ذلك.. الحمد لله؛ فلدينا مدفأة!, ولدينا لحفا اضافية نلتحف بها!, فحتما هناك ما هو أسوأ, فغيرنا لا يملك دارا ولا دثارا".
فما كان مني إلا أن ابتسمت له وأومأت موافقا, فيبدو أن جدي اكتشف انصرافي عن الحاسوب لمراقبته منذ وقت, وربما كان يراقبني من حيث ظننتُ أني أنا من أراقبه.
وها هو لازال يمطرني بحكمه, ويخفف عني بذكائه وفطنته, ورغم أن سنوات عمرى الخمسة عشر قد لا تستوعب حكم هذا الرجل الرائع؛ لكنها على الأقل ستكون حاضرة في بالي في كل منعطف صعب في حياتي, وسأضيف بها عمرا لعمري ونضجا لفكري واستيعابي.



انتهت
بقلمي حفصة اسكندراني