الجمعة، 10 فبراير 2023

حِينَ انْهَارَتِ البِنَايَاتُ ! ( قصة قصيرة بقلمي )

عادُ الأبُ مذعورًا لا تقوى قدمَاه على حملِه، تلك القدمانِ الّلتان لم تَعْتَدْ حَمْلَ جسدِهِ فحسب؛ بل حمَلتْ معَهُ جبالًا من همومِهِ، وتلالًا من أوجاعِهِ، وبحارًا من خيباتِ أمَلِهِ، لكنّهُ رغمَ ذلكَ حَاولَ أن يستَحِثَّ الخُطَى بينَ أكوامِ الثلجِ التي كَسَتِ الأرضَ حتى غطّتْ فخذَيْهِ، ومع تساقطِ الثلجِ المستمرِّ تجمعتْ الثلوجُ على منكَبَيْهِ ورأسِهِ، وتلفَّعتْ بالثلجِ بعضُ شعيراتِ أهدابِهِ وذقنِهِ.. رأتْهُ ابنَتُهُ متجهًا نحو خيمَتِهم، وملامحُ حُزنٍ جديدٍ استطاعتْ أن تجدَ لها مكانًا على صفحةِ وجههِ، كانتْ المسافةُ بينهمَا ليستْ بالبعيدةِ، فهي حيثُ تَقِفُ يمكنُها رؤيةُ فزعِهِ، وسمَاعُ لُهاثِهِ وهو ينادي: يا أُمَّ مُحمد! لقد انهارتِ البِنَاياتُ! انهارتْ جميعُها يا أمَّ محمد! لقد انهارتْ على رُؤوسِ ساكنِيها.. وإنّا للهِ وإنّا إليه راجِعون!

أبعدتِ الفتاةُ خصلاتِ شعرِها الأشقرِ عن وجهِهَا، كأنّها تُحاولُ إزاحةَ كلَّ ما يُمكنُهُ إعاقَةَ استيعابِها، أو يحولَ بينها وبين الواقعِ الذي تُحاول بمشقةٍ أن تبقَى فيهِ، لقد قالَ انهارَتْ البناياتُ بالفعلِ! هُنا تسمَّرتْ قدمَاها حيثُ تقفُ، فحجمُ الصدَمَاتِ التي يتلقوْنَها باتتْ أكبَر من استيعابِها، وحجمُ التقلُّباتِ والصراعاتِ النفسيّةِ التي تعيشُها مؤخرًا؛ أصابتْ عقلَها ببلادةٍ في تلقي واستيعابِ المصائِبِ، هذه الحالةُ لزِمَتْهَا منذُ بَدأَ شتاءُ هذا العامِ، حتى جَعَلتْها تَتهَرّبُ مِن نفسِها، ومِنْ حديثِ عقلِها، حتى باتتْ الفتاةُ تشبهُ الشتاءَ في برودتِهِ، والجليدَ في توحّدِ لونِهِ وكلاحَةِ ملامِحِهِ! ورغمَ هذهِ الحالةُ العجيبةُ التي تستنكرُها من نفسِهَا؛ فُوجِئَتْ قُبيلَ فجرِ هذا اليومِ بنفسِهَا؛ حينَ شقَّ صُراخُها المضطربُ سكونَ الليلِ!

  في الواقعِ لم تكنْ وحدَها التي تصرخُ كما ظنّتْ لأولِ وهلةٍ، بل كان الجميعُ يصرخُ حولَها، إثرَ حركةٍ عنيفةٍ هزّتْ الأرضَ تحتَ خيمتِهم في جُنحِ الظلامِ، فكأنَّ الأرضَ تُدَكُّ من تحتِهم دكّا، الخوفُ والذعرُ كانا العاملَ المشتركَ بينهم جميعا، الصراخُ يأتي من جميعِ زوايا خيمتِهِم الضيّقةِ، صرخاتُ هلعٍ يُطلقها إخوتِها السبعة ووالديْها، بالإضافةِ إلى بكاءٍ عنيفٍ أطلقَهُ أيتامُ أختِها الصغارُ الذين يشاركونَهم خيمَتَهُم ومصِيرَهم في هذه الحياةِ، بل حتى أخاها المريضُ العاجزُ عن الحركةِ والمتقوقِعُ في نفسِهِ؛ صرخَ كما لم يصرخْ من قبل!، وقبلَ أن يستوعِبوا أنَّ السَّماءَ لن تقعَ على الأرضِ، وأنَّ القيامةَ لمْ يأذنِ اللهُ لها أنْ تقومَ؛ سمعتْ من يصرخُ خارجَ خيمتِهم: إنّهُ زلزالُ! اللّهم سلّم سلّم!

توقّفَ اهتزازُ الأرضِ فجأةُ كما بدأَ، بعدَ أن بعثرَ محتوياتِ خيمَتَهم البائسةِ، قبل أن تسقطَ أعمدَتَها الواهيةِ هُنا وهناك، ويُغطي قماشُها المبلّلُ وجوهَهم، بينما أمُّها رغمَ الظلامِ تحاولُ أن تتحسّسَ جميعَ أفراد أسرتِها، والأبُّ لا يَنْفَكُ ينادي أسماءَهم الواحِدَ تُلوَ الآخرِ مرارًا وتكرارًا.

حينَها قضَتْ ما بقي من الليلِ تبكي لأوّلِ مرةٍ منذُ وقتٍ طويلٍ، تبكي بصمتٍ حتى لا يَسمَعَ بكاءَها أحدٌ فيتألّمْ لتألّمِها، أو يضطرّ لأنْ يخفّفَ عنها فيسرِدَ عليها نعمَ اللهِ علَيهم، وفي هذهِ الحالةِ بالذّات ستشعرُ كَمْ أَنّهُ كاذبٌ!، نَعمْ لم تَعُدْ تقوى على التحمّلِ بعد، فكلماتُهم تلك لا تُدفِءُ جسَدَها النحِيلِ ذي الستةِ عشرَ عامًا، ولا تسكتُ جوعَ بطنِها حينَ ينهشُ أحشائَها، ولا تذيبُ جليدَ الهمومِ المتراكمِ على قلبِهَا!

إنّها بشرٌ من لحمٍ ودمٍ، لقد كانتْ على مرِّ سنواتِ تشرُّدِهم قويةً متماسكةً، تخفّفُ البلاءَ عمّن حوْلَها، لكنّها لم تَعدْ كذلك!، وشعورُها بأنّها لم تَعدْ كذلِكَ يُؤلِمُها، فهي تَخْشى أن يُعَشْعِشَ الاعتراضُ على أقدارِ اللهِ واستبطاءُ الفرجِ في زوَايا روحِهَا، حتى يَسْتَنْطِقَ لسَانَها بما لا يُرضِي ربَّها، لأجلِ ذلكَ تحاولُ الهَرَبَ من نفسِها اليائسةِ تلكَ حتى لا تحين لحْظَة ضعفٍ فتنالَ من إيمانِها ما ينَالُه الذئبُ من فريستِهِ.

لقد مرّتْ هي وأسرتُها بصنوفٍ من الابتلاءاتِ والصعابِ، بعضُها يُحْتَمَلُ وسُرَعان ما يمضي، وبعضُها كالكابوسِ يجثِمُ على الصدرِ حتى لا يدعَ مجالًا للنفسِ، ويظنُّ الظّانُ أنّهُ لن ينتهي أبدًا إلا بموتِهِ، ولعلَّ أشدّ كوابيسِها: كابوسُ الشتاءِ الذي لا يُشبِه في شدّتِهِ كابوسًا آخرَ، وكذلك كابوسُ الجوعِ الذي لا يُضاهِي ألَمَهُ كابوسًا آخرَ، هي حقًا لا تعلمُ أيُّهُما أشدُّ فتكا بها، لكنّها في كلِّ مرةٍ ينهشُ فيها البردُ جسدَها ويقضِمُ أطرافَها؛ ويحولُ بينَها وبينَ قضاءِ حاجَتِها أو تجفيفِ ثيابِها؛ تقسمُ حينَها أن الشتاءَ في العراءِ لهوَ أعظمُ ابتلاءٍ في هذهِ الحياةِ!، وحين تنجحُ هي وإخوتها في الحصولُ على بعضِ الحطَبِ أو شيءٍ من الوقودِ للتدفئةِ، بينما يعجزونَ عنِ الحصولِ على كسْرَاتِ خبزٍ؛ حينَها تُقسِمُ أنّ الجوعَ هو الأشدُّ ألمًا وفتكًا بالمرءِ في هذهِ الحياةِ! وهكذا يَمُرُّ بِهمُ الشّتاءُ.

ومنْ وقتٍ لآخرَ يأْتي بعضُ المُحسِنينَ بمساعداتٍ تجعلُ عقاربَ الزمنِ تُسرِعُ من دَورَانِها، حتّى إذا حلَّ العُسْرُ ثانيةً أبطأتْ بل وكادتْ تَقِفُ عنِ الحركةِ تمامًا!.

في الخريفِ القريبِ وصلتْ لمخيماتِهِم جمعياتٌ إغاثيّةٌ لدراسةِ أحوالِ اللاجئينَ، ومدى احتياجَاتِهم، لكنّهم كما يأتونَ فجأةً يتبَخَّرونَ فجأةً، ومعهم تتبخّرُ الوعودُ التي يعِدُونَهم بها بقربِ انتهاءِ مآسِيهم، لتعودَ الآمالُ خائبةً لسباتٍ شتويٍّ عميقٍ قبلَ أنْ تُوقظَها عودَتُهم مرةً أخرى، وهكذا دَوَاليك!، هُم في الحقيقةِ لا يتلاعبونَ بهمْ بقصدٍ؛ وإنما احتياجاتُ اللاجئينَ في تلكَ البقاعِ تفوقُ طاقاتِ هذهِ الجمعيّاتِ وجميعِ درَاساتِهم.

ومَعَ دخولِ الشتاءِ أعلنتْ إحدى الجمعياتِ عن انتهاءِهم من تشييدِ مُجمّعِ بناياتٍ لإيواءِ سُكّانِ المخيّماتِ، وما أَجمَلَ ذلكَ من خبرٍ!، لقد شَاع الخبرُ بين الجميعِ ومَعهُ حلّتِ السّعادةُ، فأشرقَتِ الوجوهُ كما تشرقُ صبيحةَ يومِ الفطرِ، واشرَأَبَّتِ الأعناقُ في ترقبٍ وحذرٍ، وبالفعلِ بدأَ تسكِينُ الكثيرِ منَ الأُسَرِ في تلك البِناياتِ، وخَلَتْ خيمةٌ وراءَ خيمةٍ من بُؤسِها، لكنَّ الاختيارَ لمْ يقعْ على خيمَتِهم، فبدأَ القلقُ يَعْصِفُ بالفتاةِ وأُسْرتِها مع هبوبِ رياحِ الشتاءِ الباردةِ، وهطولِ الأمطارِ المستمرِّ، ثمّ عَلِموا أن التسكينَ يحقُّ للأَوْلى فالأَوْلى، فُهم يأخذونَ الأُسَرَ التي لا عَائِلَ لهم، والأُسرَ التي بها أكبرُ عددٍ من المرضى وكبارِ السِّنِ، ولأنَهم لم يكونوا كذلكَ فإنِّ الأمرَ قد يتأخرُ قليلًا.

ومضَتِ الأيّامُ تلوَ الأيّامِ حتّى اكتملَ تسكينُ جميعِ البناياتِ، ولا مفرَّ لها ولأُسرَتِها من قضاءِ شتاءٍ جديدٍ في خيمتِهم الضيّقةِ الواهيةِ، التي لا تصدُّ ريحًا، ولا تقي من مطرٍ، ولا تحولُ بينَهم وبينَ سماعِ أصواتِ الريحِ وهي تعوي في العراءِ مِن حولِهم.

(لقدِ انهارَتِ البِنَاياتُ يا رِجَال!)
انتبهتِ الفتاةُ من شُرودِها، وعدَّلتْ حِجَابَها وهي تنظرُ إلى أبيهَا وهو يَحشِدُ جيرانَهُ ليهبّوا للمساعدةِ، بينَما هي لازالتْ تحاولُ جاهدةً استيعابَ الأمرِ.
لازلَتْ تَذْكُرُ مشاعرَها حينَ رحَلتْ أُسرَةُ أمِّ خالدٍ وأُمِّ غسانٍ، وعائلةُ العمِ جابرٍ، ومعلّمةُ المخيماتِ مع أُيتامِها، وأقربُ صديقةٍ لها، نعمْ كانتْ تشعرُ بالسعادةِ لأجلِهم، لكنَّ شعورًا آخرَ أقلَقَها، فشدّةُ البردِ والجوعِ باتتْ تحولُ بينَها وبينَ الإيثارِ وحبِّ الخيرِ للآخرينَ للحظاتٍ، وقد علّمتْها المِحنُ أن تكونَ على درجةٍ عاليةٍ من النقاءِ والخلقِ الرفيعِ، والرضى التامِّ بأقدارِ اللهِ، إلا أنَّها قد أُنْهِكَتْ، وتُريدُ تركَ الخيامِ والاستقرار بين جدرانٍ تحتويهم وتحتضِنُهم.

ومِنْ تلكَ الزاويةِ تسلّلَ الحزنُ إلى نفسِهَا، وسيطرَ عليها مُذْ بدأَ الشتاءُ، وصارَتْ تُحاربُ الأسئلةَ التي تصرخُ في أعماقِها: متى ينتَهي هذا البؤسُ؟ وإلى متى سنتحَمَّلُ هذا العناءَ؟ ترى هل هُناك مَنْ هو أبأسُ من قومِنا على وجْهِ هذهِ البسيطَةِ؟ لماذا لم يقَعِ الاختيارُ علينا لنعِيشَ في تلكَ البناياتِ؟ وأيُّ خيرٍ في تأخيرِ انتقالِنا إلى منزلٍ يحمينَا من هذا العَنَاءِ؟

 وحِينَ انهارتِ البنَايَاتُ أدركَتِ الفتاةُ شيئًا لمْ تكنْ قد أدْرَكَتْهُ، حينَ انهارتِ البناياتُ استفَاقَتِ الفتاةُ من تلكَ الحالَةِ التي سيطَرَتْ عليها، لقدْ دبَّ الإيمانُ في قلبِها ثانيةً، وكأنَّها أدركتْ صُورةً أخرى منْ لُطفِ اللهِ بها وبأسرَتِها، وحكمةً أخرى من حِكمِ اللهِ في اختياراتِهِ، فباتتْ ليالِيها التاليةِ لهذا الحدَثِ تحمدُ اللهَ على عظيمِ نعمِهِ بهمْ، فهِي لم تكُنْ في البناياتِ!، ولم تَعشْ لحظاتٍ رعبٍ تحتَ الأنقاضِ محشورةً بين حجارةٍ وحديدٍ وأسلاكٍ، ولم تقفْ لتنادي بين الرُّكامِ الصامتِ أمَّها أو أختَها لتُنصتَ هل يتسللُ أنينُ أصواتِهم إليها أم لا؟، ولم تنتظْر بيأسٍ انقاذَ أحدٍ من أهلِها من تحتِ الأنقاضِ فتعالجَ الشعورَ القاتلَ بالأملِ الممزوجِ بالعجزِ والقهرِ والّلاأمل!، إنَّها لمْ تنتَظر جرافاتٍ ومعداتِ حفرٍ ولم تستجدِ رحمةَ العربِ أوِ المجتمعاتِ الدوليّةِ لتنقذَهم، إنَّها لمْ تحفرْ قبورًا ثم لم تَجِدْ جثثَ أحبّتِها لتواريهم في تلكَ القبورِ!ِ، إنّها باختصارٍ تعاني مِنْ مجرّدِ جوعٍ ينتَهي بلُقمَةٍ! وشتاءٍ سينقضِي عمّا قريبٍ!، لقد نفضَتْ غبارَ اليأسِ عن نفسِها لتبقى قويّةً أمامَ نفسِها، وأمامَ أُسرَتِها، وأمَامَ الأيتامِ الجددِ الذينَ يتوافدونَ إلى خيمتِهم الرّحبَةِ بعدَ أنْ فقدوا ذوييهِمْ. فَوَاااحَرّ قَلْبَاهُ!

بقلم حفصة اسكندراني
8 فبراير 1232

الأربعاء، 8 فبراير 2023

تَحْتَ الرُّكَامٍ ثَلاثَةُ رِجَالٍ!

تحت الركام ثلاثة رجال، لا يدري أحدهم بالآخر ولا يسمع صوته، وجميعهم يدركون أن خروجهم من تحت ركام مبنى مكون من عشرة طوابق - انهار بسبب زلزال عنيف - لهو ضرب من ضروب المستحيل.

أما الأول منهم فهو يصيح بذعر وقهر: لم يارب تفعل بي هذا؟ ماذا فعلت لك لتصنع بي هذا؟ ألم يكفيني ما بليتني به من مصائب؟ أتنتقم مني وأنا الضعيف؟.. أي منطق هذا؟ 
الناس حولنا يعيشون في رغد من العيش ونحن نعيش بؤسا يعقبه بؤس.. فأي عدل هذا؟ إذا أتتنا المصائب من البشر قلنا بشر وصببنا جام غضبنا عليهم.. فماذا نفعل إذا جاءتنا المصائب منك؟ يارب إذا أردت قبض أرواحنا فلم تعذبنا أولا؟ ألست الرحيم؟ فأين رحمتك؟ 

وأما الثاني فهو أيضا يصيح بخوف وقلق: يا ناس انقذوني! أنا هنا تحت الكرام! يا أبي.. يا أمي.. يا أخي.. لا تتركوني! يارب اجعلهم يصلون إلي عاجلا غير آجل ! يا فرق الإنقاذ أين أنتم؟ لم لا أسمع أصوات الرافعات والحفارات! هل هناك من يسمعني؟ تعبت والله من الحياة فأغيثوني! لا يعقل أن كارثة كهذه لم تستدعي تدخلا دوليا؟ أين المتطوعون؟ هل هكذا تتعاملون مع البشر؟ أحشرة أنا حتى أموت تحت الركام هكذا؟ يارب سخر لي من ينقذني!

وأما الثالث فهو هاديء مستكين يذرف دموعه بصمت وأنين، يتلو القرآن تارة ويبكي تارة وهو يناجي ربه: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، سبحانك ربي ما أرحمك ما أعدلك ما أعظمك! إن أحببت عبدا ابتليه! فاللهم خفف بلوتي وفرج كربتي، وسبب الأسباب لنجاتي، اللهم إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي! يارب غمسة في الجنة ستنسينا البؤس كله.. اللهم فصبرنا حتى نلقاك وانت راض عنا! 

هذا حال الثلاثة تحت ركام ذلك المبنى.. وهناك أصناف من الركام تحتجز المرء تحت ثقلها وقسوتها، فهناك ركام الهموم، وركام العجز، وركام الديون، وركام القهر، وركام المرض، وركام السجون.. كلها تجثم على صدر صاحبها حتى تكاد تودي بحياته إلا أن يشاء الله له فرجا. 

نحن لا نختار الركام الذي سنُبتلى به، ولا نعلم الغيب لنخمن أي ابتلاء سيبتلينا الله به، غير أننا يمكننا أن نختار أي الرجال الثلاثة نريد أن نكون؟ وللعلم فكلهم من المسلمين غير أن الإيمان في القلوب درجات. 

فإذا كان حال الثالث أحب إلى نفسك فاعلم أن وراءك استعداد عظيم، وتربية للنفس، وإيمان بوعد الله، وإدراك لماهية الدنيا، وتصديق بما وعد الله به عباده، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وحسن أدب مع الله مع حسن ظن به، وطاعة في السر، وصنائع معروف، ودعاء في جوف الليال، وعبادات في الرخاء.
ثم سل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة وأن يقبضنا إليه غير خزايا ولا مفتونين، وأن يفرج هم المهمومين من المسلمين ويفرج كربهم ويرحم ضعفهم ويجبر كسرهم.