السبت، 8 أغسطس 2015

ذكرياتي عن أول درس ألقيته في حياتي!

في قاعة من قاعات الدرس في الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بالمدينة المنورة, حيث كنّا ندرُس في دورةٍ لإعداد معلمات القرآن الكريم, وهذه تشبه معاهد إعدادِ المعلماتِ في فكرتها ومضمونها.

وتتميز هذه الجمعية بالذات بأنها من أقوى معاهد تعليم القرآن الكريم النسائية على مستوى المملكة من حيث جودة مخرَجاتها. وكنتُ قد التحقتُ بها بعد تخرجي من المرحلة الثانوية مزامنة مع عامي الجامعي الأول, وفي آخر هذه الدورة يحين عادة الموسم الذي يسبق الحصاد, وهو موسم معاينة مدى نضج الثمار وجودتها, وفيه تقوم الإدارة بإلزام كل طالبة ـ قبل تخرجها ونزولها لما يُعرف بالتربية العملي في مدارس الجمعية ـ بتقديم درس نموذجي أمام عدد من العيون الناقدة المتربصة لقنص كل شاردة وواردة, وهذه الأعين المتربصة بالنقد هن زميلات هذه الطالبة ومعهن المعلمة!.

وأذكر أنه وبمجرد تذكيرنا ــ كطالبات ــ بهذا الدرس النموذجي الواجب علينا والجاثم على صدورنا = فإن ذلك كفيل بتعكير الأمزجة, وبث الرعب في القلوب!. لدرجة أن مِنَ الطالبات مَنْ تقرر تعليق أو إيقاف دراستها من شدة خوفها ورهبتها من ذلك اليوم!.

وفي دورتنا كان دوري الثالثة بين بنات فصلي في تقديم درسي النموذجي, وقد بدأتْ قبلي بأيام طالبتين فاضلتين, رأيتُ في درسيهما نموذجا من تربص الناقدات بالمعلمة الجديدة, وكيف يتدافعن في وضع الاختبارات التربوية والعلمية للضحية المسكينة!. فكانت المعلمة ـ منا ـ التي تقرر أنها ستعطي الدرس لمستوى (تحت سن المدرسة) مثلا؛ تكاد تكره نفسها من كثرة حركات زميلاتها اللواتي يتقمصن شخصيات الأطفال بكل صخبٍ وبرودٍ واستفزازٍ, بحجة أن يوفرن لها بيئة مشابهة للبيئة الطبيعية!.
ومن تختار مستوى (الأميات), لا يُستبعد أبدا أن تتلقى ـ أثناء انهماكها في الدرس ـ عرضا بالزواج من ابنٍ وهميٍّ لإحدى الطالبات التي أتقنتْ دورها على أنها أمٌ كبيرة في السن تخطب لولدها! كل ذلك في جو رائع من الحب والود الذي لا يُنسى.

فلما حان دوري في الشرح خلوتُ إلى نفسي أشجّعها وأحمّسها على خوض هذه التجربة الجديدة بثبات ودون خوف أو وجل, وصرتُ تارة أهون على نفسي أمر النقد الذي سيلحقني في ذلك اليوم, وتارة أتمرد على خوفي فأقول: أنا اليوم ترتعد فرائصي من نقد معلمتي وزميلاتي لطريقة تدريسي. وغدا سأرتعد مرة أخرى من أول موجهة تحضر لي.. ثم من أول مديرة.. وهلم جرّ؟!!.. هل سأظل هكذا في سلسلة من الرعب والخوف؟!! فهل هذا يُعقل؟!! فآسفني ضعفي وضايقني, حتى تفتق ذهني المتقد(!) عن فكرة عجيبة, فلما أعجبتني وأطربتني إذا بي أصيح في غرفتي بحماسٍ صيحةَ محاربٍ استلَ سيفه في ساحة الوغى قائلة: والله لأنحرنّ هذا الخوف على أعتاب درسي الأول, فلا أدع له سبيلا يتسلل منه إلى قلبي بعد اليوم بإذن الله!.

وبدون أن أمنح نفسي وقتا للتراجع وجدتُني في اليوم التالي في غرفة مديرة الجمعية الخيرية أدعوها هي والطاقم الإداري وعددا من الموجهات لحضور درسي النموذجي الذي سأقيمه بعيد أيام!!.
وهكذا ألقيتُ نفسي في جحيم التحدي, فإما أن أنجح نجاحا باهرا أنطلق بعده بكل ثقة وثبات, فلا أبالي بعد ذلك بمن يحضر لي ومن لا يحضر, وإما أن أفشل فشلا ذريعا طويلا عريضا!. لكن الجميل أنني حينها كنتُ مستعدة لأعلّق فشلي على شماعة الخوف الطبيعي من حضور هذا العدد الكبير من الناقدات في أول درس لي في حياتي!
  
وبدأتُ استعداداتي للدرس, وكنتُ قد اخترتُ مستوى (الجامعيات فما فوق), لأنني أجد نفسي مع هذه الفئة أكثر, فأعددتُ وسائل نموذجية مبتكرة تناسبهن لتساند شرحي, وأعددتُ منشورا أنيقا لكبار الضيوف استهليته بكلمة أدبية عن ذكرياتي في أول درس أقدمه في حياتي, وعن سعادتي بالحضور. ثم عرضتُ خطة سير الدرس وأهدافه ...الخ.

بعد ذلك أعددتُ مقدمةً تمهيديةٍ أدبية سجعية بديعة, لكنني اكتشفتُ فيما بعد أنني لَمْلَمْتُ كلماتها كيفما اتفق.. ثم قذفتُ بها على أسماع الحضور خاليةً من كل السجعات, وعاريةً من أيّ لمساتٍ أدبية!! حتى اشمأززتُ أنا شخصيا منها!

المهم أنني وفي طور التحضير والإعداد للدرس لم أقتنع بالشواخص التي وضعتها أمامي في (بروفتي) الأولى للشرح, فقررتُ أنني في حاجة ماسة لأستبدل الشواخص (الغير عاقلة) بشواخص أخرى (عاقلة)!!. فحشدتُ أمي وإخواني وأخواتي في (البروفة) الثانية, وقد اشترطتُ عليهم الصمت المطبق! وبعد أن انتهيتُ من إلقاء الدرس شعرتُ بأنه كان درسا ميتاً! خاصة وأن الحضور قد التزموا بشرط الصمت إلا الوالدة رعاها الله. ولأجل ألا تتكرر مأساة الدرس الميت مرة أخرى أعددتُ هدايا تشجيعية لأجل تشجيع زميلاتي على التفاعل معي!, مع أنني كنتُ على ثقة من أن زميلاتي المحترمات قد بتن ليلتهن هذه وهن يحِكْنَ لي الخطط والمفاجآت التي توعدْنَني بها, تماما كما يصنعن مع كل واحدة منا.

وجاء الغد مسرعا غير متمهل, ورأيتني وقد وقفتُ أمام أزواج لا أحصيها من الأعين المترقبة. كانت من بينهن المديرة التي لبت مشكورة هذه الدعوة, وأظن أن معها موجهة أو اثنتين (لا أذكر), المهم أنني وقفتُ وألقيتُ عليهن تمهيدا لم أحضّره.
وكان شعوري حينها مخدرا.. مفرّغا من كل شيء, فقد كنتُ أسمع صوتي ليس كما اعتدتُ أن أسمعه.. وكأنه قادم من أعماقٍ ليس لها قرار, وكأنني ـ وحدي من بينهن ـ في قلب مكعب زجاجي مفرّغ من كل شيء حتى من الهواء!.. لكنني ما إن بدأتُ الدرس حتى تزايدتْ نسبة ضخ الأوكسجين في ذلك المكعب!.. فبدأ الوضع يتحسن ويستقر نسبيا.

انهمكتُ في شرح الدرس وكان توفيق الله حليفي ببركة دعاء الوالدين, لكن ما أثار انتباهي وتعجبي الشديد وفاجأني؛ هو صمت زميلاتي صمتا عجيبا مطبقا, كاد يقنعني بأن الدرس يُعرض عليهنّ لأول مرة!.. انتظرتُ مشاغباتهن.. تهديداتهن.. فلم أتلق شيئا من ذلك, والعجيب أنني كنتُ قد طلبتُ إليهن قبل الدرس أن يشاركنني ويطرحن أسئلة وإشكالات في الدرس, لأنني أعددتُ لهن هدايا قيّمة لأجل ذلك, لكن صمتهن أثار غضبي حقا, فعزمتُ بيني وبين نفسي أن أخرج فور انتهائي من الدرس مصطحبة هداياي الجميلة لأوزعها على طالبات الفصل المجاور عقابا لهن!.

وأخيرا انتهى الدرس بنجاح حظي بإعجاب الحاضرات وخاصة المديرة الفاضلة التي أثنت عليه ثناء عاطرا. وتلقيت منهن أيضا بعض الملاحظات والتعليقات النافعة المفيدة, وحين خلوت بزميلاتي رحتُ أوبخهن وأنا أستفسر غاضبة عما دهاهن؟ ففوجئتُ بتبريرات لم تخطر لي على بال, ففريق منهن أكدن بأنني كنتُ عصبية جدا, وشكلي يُوحي بأنني سأتناول أقرب مقعدٍ وأقذفه في وجه من تقاطعني لتسأل سؤلا!! (ولا أدري هل كنتُ شفافة للدرجة التي عرفن منها أنني اشتهيتُ في لحظة من اللحظات أن أفعل ذلك حقا؟؟)
الفريق الثاني قلن: والله لقد استحيينا أن نطرح أسئلة في حضور المديرة ـ في أول لقاء يجمعنا بها بهذا القرب ـ فلربما تصدق أننا بعد سنة من الدراسة المكثفة نجهل بالفعل جزئيات في درسك هذا! فرأينا الصمت أسلم وأبرك! كما أننا خشينا إن (استهبلنا) أمامها أن تسيء الظن بنا, فترانا لا نستحق أن نكون معلمات!

ورغم تبريراتهن المستفزة فقد نجحن في استعطافي وإطفاء غضبي حتى حصلن في النهاية على جميع الهدايا! فعدتُ إلى بيتنا خالية الوفاض إلا من أحداثٍ أحكيها للجنة الاستقبال التي تنتظرني, وذكرياتٍ أحتفظ بها في ذاكرتي تحتاج إلى من يستفزها للخروج والنشر, فشكرا للصاحب الموضوع على فكرة طرح ذكرياتنا عن أول درس في حياة كل منا.

بقي أن أقول: لقد استفدتُ من درسي الأول هذا فائدة عظيمة, تبلورتْ ملامحها مع توالي الدروس, وأحبُّ أن أضعها بين يدي القارئ لكيلا يخرج من قصتي هذه بدون فائدة تذكر.

فإليكم خلاصة تجربتي نصيحةً أسأل الله أن ينفع بها ويبارك فيها:

أخي المعلم... وغير المعلم...مهما أعددتَ لدرسك... لخطبتك... لمحاضرتك... للقائك الإعلامي أو ـ غيره ـ من كلماتٍ أدبية, أو وعظية, أو معلومات, أو قصص, أو أي مادة ترغب في تقديمها, ثم داخلكَ وأنتَ تحضِّرها حظوة لنفسك, ورغبة في لفت انتباه الحضورِ لبراعتك, وإبهارهم بتمكنك وعقليتك, وإبراز جانب من ثقافتك وفصاحة لسانك, لأجل حظ نفسك وحاجتها = فإن التوفيق الذي تتطلع إليه لن يكون حليفك فيها!!... نعم قد تؤديها بشيء من النجاح, ولكنها وإن شقتْ طريقها بتوفيق من الله إلى بعض قلوب الحضور فإنها ستصل إلى عدد آخر منهم عارية عن كل ما يسترُ سريرتُكَ... تماما كما نويتَها, فتجد الاستفادة منها تضاءلت أو كادتْ تنعدم. بعكس فيما لو كانت هذه الكلمة الأدبية أو الوعظية هي ذاتها الأولى بشحمها ولحمها؛ ولكنك حين أعددتَها كنتَ مستحضرا إخلاص النية لله, صادقا في حرصك على إيصالها للمستمع بأبدع وسيلة, وأروع طريقة, كي يُعجب بها, ويستفيد منها = فوالله إنك لترى حينها عجبا عجابا, فالفرق بينهما جلي ومثير للتعجب والتأمل!.فالأولى منزوعة البركة, ضعيفة المتابعة.
وأما الثانية فإنها كلمة مباركة صادقة, تدخل القلوب, وتحوز الإعجاب, وتعلق في الأذهان, ينطلق فيها لسانك, وتُلهم براعة الاستهلال وحسن الاستشهاد والاستدلال, وترى رجع صداها الطيب جليا أمام عينيك قبل فراغك منها.

ولو أنك فوجئتَ أثناء إلقائها بحضور مشرفٍ أو مدير أو وجيهٍ أو وزير أو رئيس أو أمير أو ملكٍ = ما هز ذلك منك شعرة, ولا أضاع عنك فكرة.

وإن الذي يطلبه الناس حظوظا لأنفسهم من الدنيا = آتيك بالإخلاص مرغما من غير ما تطلبه, وحاشدا لك من القلوب المحبة فوق ما تتصور, وكل هذا لا يقارن بما ستلقاه من الثواب العظيم المدخر لك عند الله جزاء إخلاصك لقولك الذي نفع الله به عبادا أنت لا تحصيهم عددا, ولربما لم تراهم في حياتك أبدا. أو بعد هذا تبخل على نفسك بالإخلاص في القول والعمل؟؟!!

رزقنا الله وإياكم حسن الإخلاص في القول والعمل, ونفع بنا.

بنت اسكندراني

حرر ونشر في ملتقى أهل التفسير بتاريخ 15/05/1433هـ