الأربعاء، 28 أبريل 2021

كيفَ كَانَ النَّفَسُ الأخيرُ يَا أمّي؟


إذا فُجِعتَ بفقدِ أحدِ والديْكَ تتوقفُ أكوانُكَ عن الدورانِ، وتتهاوى نجومُ سماءِكَ، وتتصدعُ أركانُكَ، حتى أنكَ لتبصرُ الصدعَ وهو يزحفُ نحو كيانِكَ، فيخترقَهُ زحفًا نحو روحِكَ، ليُحدِثَ شقوقًا وجروحًا عميقةً فيها، ولا تزالُ في حالةَ ذهولٍ من هولِ الصدمةِ، فلا تعلمُ هل أنتَ في يقظةٍ أم في منامٍ؟ وهل استوعبتَ ما قالوه أم أنكَ عاجزٌ عن السمعِ والبصرِ فضلاً عن الاستيعابِ؟!، فثمة أستار تُسدَلُ أمامَ ناظريْكَ، تحولُ بينَكَ وبين رؤيةِ ما حولَكَ، وإذْ بالمسافاتِ التي تُبصرها تفرغُ من كلِّ شيءٍ، وفي ركنٍ قصيٍّ من ذلكَ الفراغ ترى الطفلَ الذي بداخلِكَ يجري هنا وهُناكَ في اضطرابٍ وقلقٍ، طفلٌ بائسٌ أشعثٌ باكي العينينِ، قد أضاعَ يدَ الحنانِ التي كانتْ تُمسِكُ بهِ، وهو لا يعلمُ إلى أيِّ اتجاهٍ يفرُّ؟

صدقني سيصرخُ الطفلُ الذي بداخِلكَ أولًا، وسيبكي بحرقةٍ فقدَ الأبِ أو الأمِّ قبلَ أن تتجاوبَ دموعُكَ أنتَ مع الحدثِ، سيصرخُ الطفلُ وينهارُ أمامَ ناظريْكَ في ذلكَ الفراغ، حتى أنّكَ ستسمعُ نحيبَهُ قبلَ نحيبِكَ، وستشفقُ على ضياعِهِ قبلَ ضياعِكَ، وستبكي على واقِعِهِ قبلَ واقعَكَ. 

فما أشدَّ هذا الشعورُ، وما أفتكَ ذلكَ الفقدُ!

هذا جزءٌ مما شعرتُ به حينَ فقدتُ والدتِي ـ رحمَها اللهُ ـ قبلَ ما يقربُ من أربعةِ أشهرٍ، ومنذُ ذلكَ الوقت وأنا أطببُّ نفسي وأداوِيها، حتى أقوى على إمساكِ القلمِ ثانيةً، فحقٌ على قلمٍ سالَ بمقالاتٍ عدةٍ في مناسباتٍ مختلفةٍ من حياتي أنْ يُخلِّدَ ذكراها، ولو بأحرفٍ حزينةٍ بالكاد تتمالكُ نفسَها لتصطفّ على السطورِ، حتى تحكي جملةً من مشاعري، وتروي طرفًا يسيرًا من ألمِ فقدِها، وواللهِ لولا فضلُ اللهِ عليَّ ورحمتُهُ لما ثَبُتَ الفؤادُ ولا تمالَكَ، فلِلهِ وحدَهُ الحمدُ والمنّةُ، فهو الذي يُنزِّلُ برحمتِهِ مع البلاءِ صبرًا يهوِّنُ وَقْعَهُ، ولطفًا يخففُ وطأتَهُ. 

وإنِّي يعلمُ اللهَ قد بدأتُ هذا المقالُ منذُ شهرينِ أو يزيد، غيرَ أنِّي لم أقوَ على إكمالِهِ، وحينَ أتى شهرُ رمضان المباركِ ـ وهو أوّلُ شهرِ رمضان لي في الحياةِ بدونِها ـ حاولتُ جاهدةً أن أتمالكَ نفسي لأدوِّنَ مشاعري لحظةَ وفاتِها، ولكي أفصح عنِ التساؤلِ الذي لطالما أردتُ سؤالها عنه منذُ رحَلَتْ: تُرى كيفَ كان النّفَسُ الأخيرُ يا أمِّي؟ 

وقبلَ أن تتعجبَ يا قارئِي من سؤالي هذا فإنّ لهذا التساؤلِ قصةُ حدثتْ قبيلَ وفاةِ والدتي الحبيبةِ، فقبلَ شهرٍ من وفاتِها تقريبًا، كنتُ أنا وهي مع زوجي في سيارتِهِ متوجهونَ إلى مكانٍ ما، وقد تطرقنا لحديثِ الساعةِ آنذاكَ وهو مرضُ كورونا وآثارِهِ على الناسِ من حولِنا، وقد كانتْ والدتي رحمها اللهُ في أتم صحة وعافية، وكانت تُحسِنُ التوكّلَ على اللهِ، ولا تُظْهرُ جزعًا أو خوفًا من ذلك الوباءِ، غيرَ أنَّها في ذلكَ اليومِ بالذات أبدَتْ قلقَها من هذا المرض فقالتْ: مشكلةُ هذا المرضُ أنه كما قالوا يُصيبُ الجهازَ التنفسيَّ، وأيُّ مرضٍ يصيبُ الجهازَ التنفسيَّ يُقلِقُني!. 

قالتْ هذا لأن لديْها ضيقٌ في مجرى التنفسِ حذَّرها الأطباءُ منه، حتى أنّها لتغصُّ في حباتٍ قليلةٍ من الأرزِ، وأحيانًا تغصُّ بلا سببٍ، ثم تحاولُ استعادةَ أنفاسَها بعدَ ذلكَ بصعوبةٍ، لذا فخوفُها ذلكَ كان له ما يبررُه، لكنها فاجأتْني حينَ أضافتْ:
دائما ما أفكرُ في صعوبةِ النفسِ الأخيرِ في هذهِ الحياةِ، حينَ أحاولُ أخذَ الهواءِ ولا أستطيعُ، وأحاولُ عبثًا فلا أستطيع.. فياربِ هوِّنْ عليَّ النفسَ الأخيرَ وصعوبتهُ، وأخرجنا منها على خيرٍ!

لأوَّلِ وهلةٍ صُدمتُ من كلامِها، غيرَ أنِّي سمعتُ نفسي أرددُ مع زوجي عباراتٍ تقليديةٍ تقالُ في هذا المقام: سلّمكِ اللهُ من كلِ سوءٍ.. بعدَ عمرٍ طويلٍ.. حفظكِ اللهُ لنا.. الخ. 

وبعدَ أن أنهيتُ عباراتي شعرتُ أن كلامي كان سطحيًا لأبعدِ حدٍ مقارنةً بعمقِ عباراتِها وما تحملُه من قلقٍ عميقٍ، فوجدتُ نفسي أكملُ بعد صمتٍ يسيرٍ وكأنَّ اللهَ يُلهمني ما أقولُ: وبعيدًا عن عباراتِ المجاملةِ التي أسمعنَاكِ إيَّاها.. تعالي نتحدثُ قليلًا عن النفسِ الأخيرِ، باللهِ ما الذي يخيفُكِ من نفسٍ بعده ستلقينَ اللهَ تباركَ وتعالى؟ إنّهُ نفسُ السعادةِ ذاكَ الذي نلقى بعدَهُ أرحمَ الراحمينَ، إنه أجملُ نفسٍ وأهنأُ نفسٍ، إنهُ نفسُ الطمأنينةِ والسرورِ! 
ثم تابعتُ حديثي قائلةً: هبي أنّ انسانًا لم تلتقيهِ من قبل، وبينَك وبينَهُ مسافاتٍ، لكنهُ اعتادَ أن يرسلَ إليكِ كلَ عامٍ بهديةٍ تسعدُكِ وتبهجُكِ، ثم تيسَّرَ لكما بعد زمنٍ أن تلتقِيا، فكيفَ ستكون سعادتِكِ بلقاءِهِ؟؟ وكيف سيشتعلُ حماسُكِ لشكرهِ وجهًا لوجهٍ؟ 
فكيف بملكِ الملوكِ الذي ينعمُ علينا سنواتِ عمرِنا كلِّه، ويغدقُ علينا بعطاياهُ مذُ وُلدنا وحتى يومنا الحاضرِ، وهو مَنْ وهبنا الصحةَ والعافيةَ والمالَ والجمالَ والذريةَ، وغيرِها من الهباتِ، ونجَّانا من الكثيرِ من الحوادثِ والمصائبِ، وهو الذي شغلَك بتعليمِ كتابِهِ وجعلَكِ بمنِّهِ وكرمهِ من مقرئات المسجد النبوي.. فأيُّ لقاءٍ أجملَ من لقاءِ ملكِ الملوكِ؟ وأيُّ سعادةٍ تلك التي ستشعرينَ بها في ذلكَ النفسِ الأخيرِ الذي يقلقُكِ؟ إنّما ذلكَ القلقُ وهذا الخوفُ (منَ الشيطانِ ليحزنَ الذين آمنوا وليس بضارِهم شيئاً إلا بإذنِ اللهِ وعلى الله فليتوكلِ المؤمنونَ).. فأبشري بالخيرِ يا غاليةَ، فمَنْ أحبَّ لقاءَ اللهِ أحبَّ اللهُ لقاءَهُ، وفي الحديثِ القدسيِّ: (أنا عندَ ظنِّ عبدي بي)، وإنَّا واللهِ لنظنُّ بربِنا خيرًا، وأنَّ النفسَ الأخيرَ الذي يعقبُهُ لقاءُنا به هو أروعُ لحظةٍ في حياتِنا.. أطالَ اللهُ عمرَكِ على طاعتِهِ ورزقنا وإياكِ حسنَ الختامِ. 

حينها تمتمتِ الوالدةُ بعباراتِ تفاؤلٍ لا أذكرَها، غيرَ أنَّها كانتْ سعيدةً بما سمعتْ، حتى لكأنَ وجهُها أضاءَ بشرًا وطمأنينةَ بعدَ تلكَ الكلماتِ.. فاغتبطتُ حينها بذلكَ، وما كنتُ أدري أنّها ستُصابُ بوباءِ كورونا بعدَ حديثِنا هذا بأيامٍ معدوداتٍ، ثمّ بعدَ إصابتِها بعشرةِ أيامٍ أُدخِلَتِ المشفى، ثم العناية المركزةِ، ولا نملكُ دليلًا حتى يومِنَا هذا على أنّها كانتْ بحاجةِ لدخول المشفى فضلًا عن العنايةِ المركزةِ، نعم لقد شخَّصَها الأطباءُ منذُ أوّلِ لحظةٍ بالتهابٍ رئويٍّ حادٍ تحتاج معه إلى أجهزةِ أكسجين!، لكنَّها ويالَ المعجزة لم تكنْ تشكو من ضيقِ نفسٍ، ولم تصابْ بسعالٍ، ولم تغصَّ من قلةِ الأكسجين، بل كانتْ تشكو من عسرِ هضمٍ طوال الوقتِ فحسب، فكأنَّ اللهَ تباركَ وتعالى استجابَ دعاءها ذاكَ، فلم تعاني من مشاكلِ التنفسِ التي كانتْ تُقلِقُها، بل ظلَّتْ نائمةً في أصعبِ لحظاتِ مرضِها، خاصةً حين أُصيبتْ رئتيْها بالفشلِ التامِّ، وكذلك في لحظاتِ احتضارِها بسبب جرعاتِ المنوِّمِ التي حقنوها بِهِا، غيرَ أنَّ اللهَ وفّقَ إخوتي وألهَمَهُم وضعَ تسجيلٍ يقرأُ الرُقيةَ الشرعيةَ وآياتٍ منِ القرآنِ الكريمِ قربَ رأسِها طوالَ الوقتِ ودونَ توقفٍ، وذلك بناءً على رغبتِها رحمَها اللهُ، ثمّ وَفقَنَا اللهُ وتناوبنَا في الدّخولِ عليها نُرقِيها باستمرار، وندهِنُ جسدَها بزيتٍ مباركٍ تُلِيَ عليهِ ختماتٍ من القرآنِ، كما وَفّقنا اللهُ لأنْ نقرأَ عليها سورةَ البقرةِ مراتٍ عديدةٍ ونحنُ على يقينٍ أنّها لنْ تعدمِ بركَتَها بإذنِ اللهِ.

 وقبيلَ وفاتِها بساعةٍ أو يزيد تجردتُ من مشاعري كابنةٍ، وقيدتُ عاطفتي في ركنٍ قصيٍّ حين شعرتُ أننا نفقدها، وأنها راحلة من دنيانا، فوقفتُ عند رأسِها أُلقنُها الشهادةَ رغم أنها نائمة، ورحتُ أحدِّثها عن نفسِ السعادةِ الذي تحدّثنَا عنهُ، وأدعو لها بالثّباتِ، وأنْ يحشرَها اللهُ مع منْ أحبّتْ، وأَن يجعلَها من أهلِ البقيعِ كما كانتْ ترجو، وأبشِّرُها بتأمينِ الملائكةِ على هذا الدعاء كما قالَ الحبيبُ المصطفى صلى الله عليه وسلّم، وأحدِّثُها عن كرمِ اللهِ تباركَ وتعالى، وعنْ روعةِ لقاءِهِ، وأقرأُ عليها آياتٍ من القرآنِ الكريمِ، وأودِّعُها وأستودِعُها اللهَ الذي لا تضيعُ ودائعَهُ، وكنت على يقين أنها تسمع وتعي كلامي، وبُعيدَ ذلكَ فاضتْ روحُها الطيّبة لبارئِها مع أذانِ فجرِ يومِ الجمعةِ العشرون من شهرِ ربيعٍ الأولِ لعامِ ١٤٤٢هـ، الموافق السادسِ من شهر نوفمبر لعام ٢٠٢٠م، وقدْ أحدَثَ نبأَ وفاتِها صدمةً مُزلزِلةً لإخوتي وأُسَرِهِم، وسبّبَ حزنًا كبيرًا بين أهلِ القرآنِ في مدينةِ رسولِ اللهِ صلّى الله عليهِ وسلّمَ.

ورغم الرُؤى والبُشرياتِ التي تُرى لها وتتوالى علينا عن سعادتِها في حياةِ البرزخِ، وأنَّها لازالتْ تُقرِئُ القرآنَ كما اعتادتْ، وأنّها حيّةُ لم تمُتْ، إلا أنّني وددتُّ بكلِ كياني لو سألتُها ذلكَ السؤالُ الذي يشغَلُني: تُرى كيفَ كانَ النفسُ الأخيرُ يا أمّي؟، فأنا اليومَ في أمسِّ الحاجةِ إلى سماعِ ذلك.

رزقنَا اللهُ وإيّاكُم العملَ لأجلِ ذلكَ اليومِ، ورزقنا حسنَ طاعتِهِ وحسنَ عبادتِهِ، وختمَ لنا حياتَنا بالطمأنينةِ والرضوانِ، وإني لأسأله تبارك وتعالى أن يرحمَ أمّي وأبي برحمتِهِ التي وسعتْ كلَّ شيءٍ، الّلهم ارحمَهما كما رَبَّوْنا صِغارًا، الّلهم إنهُما قد نزلا في ضيافَتِكَ وأنتَ أكرمُ الأكرمينَ، الّلهم أنِرْ قبرَهما، وآنِسْ وحشَتَهُما، واجعلِ القرآنَ رفيقَهُما، واجمعنا بهما في فِردوسِ جنّتِكَ برحمتِكَ يا أرحمَ الرّاحمينَ.

**عن والدتي الأستاذة فاطمة إبراهيم المقرئة بالمسجد النبوي أتحدث.

بقلم حفصة اسكندراني
حرر في ١٥ رمضان ١٤٤٢ه