الخميس، 28 سبتمبر 2017

حِينَ وَطِأَتْ قَدَمَايَ مَغْسَلَةَ الأَمْوَاتِ!! (قصة حقيقية)

أمَام مبنًى صغيرٍ ملحقٍ بأحدِ مساجدِ القصيمِ ـ التي أزورَها لأوّل مرّةٍ في حياتي ـ توقَّفْنا وتوقَّفَ معنا سربُ السياراتِ التي كانتْ تُرافقنا, وحين تلفّتُّ أتأملُ المبنى صافحتْ عينايَ اللافتةَ الكئيبةَ التي تعلوهُ (مغسلةُ الأمواتِ... قسمُ النساءِ) فشعرتُ بقبضةٍ ورهبةٍ!.
وقبلَ أن أخطوَ خطوةً خارجَ السيارةِ؛ كان الحماسُ الذي يدفعُني لملاقاةِ جسدِ صديقتي الغالية ــ التي حالتِ الأقدارُ بين لقائي بها قبلَ وفاتِها ــ قدْ فَتُرَ وتبخّرَ دفعةً واحدةً. فرحتُ أشحذُ تماسُكي وقوّتي وأنا أحدّثُ نفسي: لقد أتيتُ من المدينةِ ومعي جارتي (صديقتُنا المشترَكةِ) فورَ سماعِنا للخبرِ لأجلِ هذهِ اللحظةِ, ..لأجلِ أن نحقّقَ أمنيتَها ـ رحمَها الله ـ في لقاءٍ يجمعُنا كما تمنتْ, صحيحٌ أنّه لقاءُ أحياءٍ بأمواتٍ لا طعمَ لهُ... لكنّه يعدُّ لقاءً!! ولطالما وعدناها بلقاءٍ!.
لقد جئنا محبّةً لها ووفاءً بصحبتِها... جئنا لأجلِ أنْ نغسِّلَ جسدَها الحبيبَ بأيدينا, ونودِّعُها قبلَ أن تُوسدَ الترابَ, بعدَ أن وَضعَ الموتُ نقطةً في آخرِ سطرٍ من كتابِ حياتها الحافلةِ بالمعاناةِ والصراعِ المريرِ مع المرضِ الخبيثِ. عافانا الله وإيّاكم وتغمّدها بواسعِ رحمتِه.
وقد كنّا ـ ثلاثتُنا ـ في يومٍ من الأيامِ نمثّلُ خيرَ صحبةٍ, وأجملَ رفقةٍ, وأروعَ جيرةٍ يحسِدنا عليها القريبُ قبلَ البعيدِ. لكنّها الأيَّامُ لا تُبقي على حالٍ. لذا لم يكنْ مستغربًا أن نُعلنَ لجميعِ معارفِها وبناتِها أنَّنا نحنُ الاثنتينِ فقط منْ سنحضرُ غسلَها.
وكمسلوبِ الإرادةِ الذي يُساق سوقًا.. اجتزتُ أنا ورفيقَتي بوابةَ المغسلةِ, وفي الداخلِ استقبلتنا امرأةٌ وقورٌ, وأمرتْنَا بنزعِ عباءَاتنا لنكون أكثرَ مرونةً في الحركةِ أثناءَ الغسلِ, ثم طلبتْ إلينا الانتظارَ على مقِاعدَ بجوارِ البوابةِ ريثما تُنهي ما بيدها, ثم غابتْ خلفَ ستارةٍ سوداءَ حالكةِ السوادِ تغطّي عنّا الأفقَ بأكملِه!.
كان المكانُ رطبًا, غريبَ الرائحةِ, والستائرُ السوداء كئيبةٌ كئابةَ الموتِ ذاتِه!. صوتُ بكاءٍ مكتومٍ يأتي من ركنٍ لا نبصره خلفَ الستائرِ, يتخللُّ هذا الصوتُ صوتَ قطراتِ ماءٍ منتظمةٍ توحي بأن أحدَهم لم يُكمل إغلاقَ صنبورَ الماءِ جيدًا, رائحةُ عجيبةُ أشتمّها لأولِ مرةٍ في حياتي.
لا ندري ماذا يجري وراءَ الستائرِ؟ لكن أصواتًا تحدثتْ أخيرًا إلى صاحبةِ الصوتِ الباكي ليقلنَ لها: لقد انتهينا فأخبري الرجالَ أن يستعدّوا لاستلامِها. فجاوبهُنَّ نشيجُ بكاءٍ متألمٍ لامرأةٍ متوسطةِ العمرِ وهي تقولُ: (الله يرحمكَ يا ميمتي. الله يُدخلكِ الجنّة)
وفجأةً وبدونِ مقدماتٍ اندفعَ جانبٌ من الستائرِ السوداءِ وبرزَ منه سريرٌ متحرك ٌمسجيٌّ عليه جثّةَ امرأةٍ مكفّنةٍ لا يظهرُ إلا وجهها. وَاكبَ ظهورها صوتُ دقاتٍ تتعالى على البوابةِ التي بجوارنا لأجلِ أن يُسمحَ للرجالِ بالدخولِ لاستلامِ المرأةِ. وهنا ـ لا أخفيكم ـ حدَّثتني نفسي بالفرارِ, فلأوَّل مرةٍ أرى مثلَ هذا المنظرِ, ولولا أن خلفَ المخرجِ الوحيدِ لهذا المكانِ جمهرةٌ منِ الرجالِ لما ترددتُ في الخروجِ للحظةٍ ذاهلة عن عباءَتي!
عادتْ إلينا المرأةُ التي استقبلتنا فدعتنا للدخولِ خلفَ الستائرِ حتى يتمكّنَ الرِّجالُ من أخذِ تلكَ المرأةِ, ولأجلِ أن نشرعَ في غُسلِ صديقتنا لننتهي قبلَ أذانِ الظهرِ بوقتِ كافٍ لكي نستعدَّ للصلاةِ.
كانتْ رفيقتي أولَ من دخل, وقد كانتْ جريئةً متحمسةً لرؤيةِ صديقتِنا, وكنتُ أظنْنُي ـ حتى لحظةِ دخولنا لهذا المكانِ ـ على ذاتِ الدرجةِ من الحماسِ وربما أكثر, لكنَّ الرُّعبَ دبّ بينَ جنبيَّ, حتى حُببَّ إليَّ أن تنشقَ الأرضُ فتبتلعني على أن أدخلَ هذا المكانَ المرعبِ!
دخلتُ فإذا بقاعةٍ كبيرةٍ مربعةِ الشكلِ مرتفعةِ السقفِ بها عددٌ مصفوفٌ من الطاولاتِ البيضاءِ المخرّمةِ!, الطاولاتُ في صفوفٍ متوازيةٍ, وبينَ كلِ طاولةٍ وأخرى مسافةً كافيةً من الأمتارِ. يمرُّ في أعلى المكانِ شبكةً من المواسيرِ على ارتفاعٍ يمرُّ فوقَ الرُّؤوسِ وقد عُلِّقتْ عليها خراطيمُ مياهٍ حمراءَ, وفي أرضها خطوطٌ طويلةٌ من بالوعاتُ الصرفِ الصّحيِّ حولَ كلِ طاولةٍ لأجلِ ابتلاعِ المياهِ المتناثرةِ هنا وهناكَ.
بقيتُ مسمّرةً في مكاني, أصواتُ الرِّجالِ وهم يحوقلونَ ويودِّعونَ أمَّهم كانتْ تتردّدُ بصدى في أُذنُي, رفيقتي دخلتْ إلى ركنٍ لا أبصِرُه.. ولم أقوَ أن أتُابعها ولو ببصري. ولا إراديًا تشبّثتُ بالستائرِ السوداءِ التي كرهتُها مُذْ دخلتُ المكانَ حتى لا أنهار, فإذا بها تحِنُّ عليَّ وتُبقيني أَبدو كامرأةٍ شجاعة متماسكةٍ في هذا المكانِ الكئيبِ.
خرجَ الرجالُ مصطحبينَ معهمُ الصخبَ الذي أحدثوه بدخولِهم, فسمعتُ صوتَ المغسِّلاتِ على بعدِ ثلاثِ طاولاتٍ من موقعي, لكنّي لم أجرُأ أن أمدَّ عُنقي لأبصرُهنَّ. وسمعتُ رفيقتي تبكي وهي تنادي صديقتنا وتترحمَ عليها.
بقيتُ حيثُ أنا فلقد تجمّدتْ الدماءُ في عروقي, أبصرَتْني إحدى المغسِّلاتِ, وكأنّها قرأتْ ذُعري وخوفي فجاءتْ برفقٍ تدفعُني كي أذهبَ وأسلّمَ على الميّتةِ!, ورغمَ أنَّ الصمتَ كان قد ابتلعَني إلا أنني رفضتُ عرضَها بحزمٍ أوصلتُه بكل شيءٍ إلا صوتِي, حتى بدوتُ كطفلةٍ صغيرةٍ ترفضُ أن تُقادَ إلى عقابٍ تتوقعُه, لكنَّها راحتْ تُربِّتُ علي يدي وهي تقولُ: هذه حالُ الدنيا يا ابنتي, فقط تعالي وانظري إليها ولوْ من بعيدٍ. لا أدري كيفَ خطوتُ خطوتين حتى بدا لي من بعيدٍ الجسدُ يرقدُ على إحدى الطاولاتِ,... رأتني رفيقَتي فراحتْ تردِّدُ بعربيتِها المكسَّرةِ المشوبةِ باللكنةِ الإنجليزيةِ: (تعالي يا حفصة شاهدي كيفَ وجهَها مضيءٌ, هذهِ وجوهُ أهلِ القرآنِ... تعالي سلِّمي عليها.. تعالي... ما أجملها.. أنظري إليها!).
للأسف لمْ أتحرَّك من مكاني, ولم أَلُمْ نفسي أنّنِي لم أكنْ بشجاعةِ رفيقتي, فقد كانتْ امرأةً شجاعةً منذُ قرّرتْ أن تُعلنَ إسلامَها في وجهِ أسرةٍ استراليةٍ نصرانيةٍ متشددةٍ, ثم قامتْ لفترةٍ بعدَ إسلامِها بتغسيلِ موتى المسلمينَ في إحدى مشافي سيدني رغمَ رقَّتها المتناهيةِ التي لا تناسبُ عملًا كهذا. ومن ذلكَ المكانِ روَتْ لنَا كَم رأتْ من آياتٍ عجيبةٍ يقشعرُّ لها البدنُ, فبرغمِ أنّ ثلاجةَ الموتى في المشْفَى الذي تعملُ فيه لا تفرِّقُ بين جثةِ مسلمٍ أونصرانيٍّ أو يهوديٍّ أو ملحدٍ؛ إلا أن جثثَ المسلمينَ كانتْ محصَّنةً من الدودِ الذي يخرجُ من وجوهِ وأفواهِ ومناخيرِ الجثثِ الأخرى المجاورةِ لها في نفسِ الثلاجةِ!, مما جعلَ المُوكلةُ بغسلِ جثثِ الكفارِ وإضافةِ مساحيقِ التجميلِ إلى وجوههم الكالحةِ تعلنُ إسلامَها هي الأخرى بسبِ هذه المشاهداتِ العجيبةِ!
نِداءَاتُ رفيقتي لي لم تتوقفْ, لكنني لم أستطعْ أنْ أتحركْ من مكاني, وظللتُ هناك على بُعدِ عشرةِ أمتارٍ تقريبًا حتى انتهى الغُسلُ.
شاهدتُ كلّ شيءٍ... شاهدتُ كلَّ التفاصيلِ وأنا مُسمَّرةٌ في مكاني, تعصفُ بي الأفكارُ عصفًا.
شاهدتُ من مكاني عالمًا لم أبصرُه في حياتي... فهناكَ يقفُ بكَ الزّمنُ.. وتتوقفُ أفلاككُ عن الدورانِ.. هناكَ ينتهي الكلامُ وتنتحرُ الأحلامُ... هناكَ تقصرُ الآمالُ وتوأدُ جميعُ المخططاتِ.. هناكَ تلطمُكَ الحقيقةُ, وتتعرى الحياةُ من كلِ أقنعةِ زيفِها.. هناكَ تتصاغرُ همومكَ التي كنتَ تظنُّها جبالًا فلا يبقَ إلا همٌّ واحدٌ يترددُ في ذهنِك بكلِ إلحاحٍ.. ماذا ينتظرني بعدَ هذهِ الحياةِ؟؟ أهيَ جناتُ النعيمِ أم نارُ الجحيمِ والعياذُ بالله؟؟
هناكَ في مغسلةِ الأمواتِ ترى مساراتٍ جديدةٍ ومختصرةٍ لحياتِكَ غيرَ تلكَ التي كنتَ ترسمها منذ سنين.. هناك تضطربُ جميعُ حساباتِكَ.. نظرتُك الشاعريةِ لكلِ شيءٍ في الحياةِ تنطفئُ.. ستدركُ أشياءً لم تكن تدركها من قبل.. فجسدُك ما هو إلا ثوبٌ مستعارٌ!! ستخلعه يومًا لتستلمُه منك... هوامُ الأرضُ!, روحكَ وحدَها التي كنتَ لا تسعى لتجميلها كما تسعى لتجميلِ جسدِكَ = هي التي ستبقى, بل وستُجهَّز لترتدي ثوبًا آخرَ! فأيُّ ثوبٍ هو يا تُرى؟؟
ثم إذا كان جسدُكَ ثوبًا مستعارًا.. فمن بابِ أولى أنَّ ما بينَ يديكَ من مالٍ وجاهٍ وزوجٍ وولدٍ وحظوظٍ وأملاكٍ = مستعارٌ أيضًا.
فمـــــــــــا أتفهكَ أيُّها الإنسانُ الغافلُ الأحمقُ!!
شعرتُ بخدرٍ في قدمي وغيبوبة تتسلّلُ إلى عقلي..لقد باشرنَ الغسلَ.. استسلامُ الجسدِ السلسِ لأيدي المغسلاتِ ليقلِّبنَه كيفما شِئنَ آلمنِي وأوجعَنِي وصدَمَنِي!!
كنتُ أظنُّ أنني سأظلُ الوحيدةَ التي تقرّرُ كيفَ أحرِّكُ جسدي... لكن يبدو أنني سأترُكُه يومًا لأيدٍ لا أعرفُها تقلِّبهُ كيفَما شاءتْ وأنا هناك محبوسة أسمعُهنّ... لكنني لستُ معَهنّ!.
الحركةُ مِنْ حولي كانتْ نشطةً, وخراطيمُ المياهِ كانتْ تعملُ بسخاءٍ, وأنا لازلتُ في مكاني. كم كنتُ أحتاجُ لصفعةٍ تخرجُني من ذلكَ الكابوسِ المظلمِ... من تلك القوقعةِ التي أُحشرُ فيها قسرًا. لم أعدْ أُبصرُ من الألوانِ إلا الأبيضَ والأسودَ... لا أذكرُ لونًا آخرَ إلا لونَ العشبِ الأخضرِ الذي صبَبْنَه على جسدِ الميِّتَةِ ليفركنَهُ بهِ, ومعه عَبَقَتْ رائحةٌ لا أعرفُ كنْهَهَا. لم تكنْ جميلةً.. لَا.. ليسَ هناكَ شيءٌ جميلٌ إطلاقًا, ..لكنَّها لم تكن سيئةً أيضًا.
الثِّقَلُ الذي في لسانِي تمدَّدَ وتضاعفَ, لمْ أستطعْ أن أتلَفَّظَ حتى بالدعاءِ. أحضَرنَ الأكفانَ البيضاءَ وشرعنَ في تكفينها, وأنا بدأتُ أدركُ أنني أخرجُ عن عالمي... حتمًا سأُحدِثُ ضجةً بسقوطي... سأضّطرُهنَّ ليستنجِدنَ بالرجالِ ... وعباءَتي أين هي عنّي؟؟!!
بدأتُ أقاومُ غيبوبةً تُلِّحُّ على جميعِ حواسِّي وتتسلَّقُ أسوارَ عقلي لتَبْتَلِعَهُ, فوالله لكأَنَّني أقاومُ وحشًا كاسرًا!. فخطرَ ببالي أنْ أبذلَ طاقتي للخروجِ من تلك الحالةِ بالاستغفارِ علَّ الصوتَ يخرجُ بالتدريجِ فتنفكُ عقدةَ لسانِي. فلمْ أزلْ أستغفرُ وأستغفرُ حتى خفَّ ثقلُ لساني تدريجيًا, ثم سمعتُ صوتي ينطلقُ فجأةً من سجنِه.
وكَمَنْ أَلْقَى بألواحٍ من الزجاجِ الهشِّ على رخامٍ أمْلسٍ قاسٍ فانفجرتْ وتناثرتْ = انفجرتُ وتناثرتْ دموعي من محبسِها, ثم انطلقَ لساني بما جاشَ في أعماقِي, ورحتُ أدعو وأترحَّمُ على تلك المرأةِ الصالحةِ التي كانتْ أحبَّ صديقاتي إلى قلبي, وكنتُ من أحبِّ صديقاتِها إلى قلبِها.
انتهى التكفينُ.. ودخلتْ أفواجٌ من النساءِ عليها لتودِّعها وتقبِّلَها, ولم أزلْ بعيدةً عنهنَّ أرمُقُهنَّ. أَدْخَلوا زوجَها وإحدى بناتِها فودَّعُوها وخرجوا جميعًا, ولم يبقَ إلّا أنَا وإحدى المُغَسِّلات في المغسلةِ بكبرِها, وحين شرعتْ المرأةُ بإغلاقِ الكفنِ حينَها فقط تحركتُ!... تحركتُ وصِحْتُ في المرأةِ أنِ انتظِري!...
اقتربتُ من الجسد المكفَّنِ, ووقفتُ عند رأسِ صديقتي ثم نظرتُ إليها وأنا أقاوم دموعا حارة مؤلمة, وهمستُ قائلةً بحروفٍ متلعثمةٍ, أسمعُ بعضها ويغيبُ عن السمعِ بعضُها الآخر:
صديقتي: أعلمُ أنكِ كنتِ تتوقعينَ أن أكونَ من أوائلِ من يقبِّلُ رأسكِ الحبيب قبلة الوداعِ... لكنني خائنـــــــــــــــــةٌ...
جبانـــــــــــــــةٌ...
لم أستَطِعْ...
لَم أكُنْ أعرفُ بجُبني هذا... فسَامحِيني...
لقدْ كنتُ هنا حولَك طوالَ الوقتَ... لكني كنتُ صامتةً!...
لم تغيبي عن عيني لحظةً...
لكن حالَ بيني وبينكِ حقيقةٌ لم أكنْ أعِيها حتى لحظةَ رؤيتِك على هذا الحالِ... وفي تلك الخطواتِ التي فصلتْ بيننا دارتْ معارك عنيفة تصارعتْ فيها الحقائقُ الجديدةُ مع أوهامي وأحلامي ونظرياتي القديمةِ, حتى تغلبتْ الحقيقة, فقَصُرَتْ بيني وبينكِ المسافاتُ... وهَا أنَا أتَيتُك...
أرجوكِ سامحيني..
لم أكنْ الأولى التي تطبعُ قبلة الوداع ِعلى رأسكِ, بل لم أكنْ ضمنَ الجموعِ أصلًا, لكنني..... سأكونُ الأخيرةُ.
ثُمّ طبعتُ قبلةً على جبينها وتركتُ دمعةً على وجهِها, وخرجتُ إلى الحياةِ امرأةً أُخرى بعقليةٍ أخرى تفوقُ سنواتِ عمري, ونظرةٍ جديدةٍ ذات أبعادٍ عميقةٍ...
أنا لمْ أهيلَ الترابَ على جثَّة صديقتي...
ولا أتصوَّرُ كيف تعودون ـ يا معشرَ الرجالِ ـ إلى الحياةِ بعد تجربةِ الدفنِ القاسيَةِ هذه؟؟!!!!!.
ووالله إنِّي لأحمَدُ الله الذي رحِمنا ـ نحن معشرَ النساءِ ـ من حضورِ الجنائزِ وتتبُّعِها ودفنِ الموتَى... فما أظنُّ أننا نقوى على رؤيةِ تلكَ الأهوالِ دونَ أن نصابَ بصدمةٍ عصبيةٍ, أو سكتةٍ قلبيةٍ مفاجئةٍ قبل أن يفرغَ الناسُ من مراسمِ الدفنِ.
لقد خرجتُ حقًا من مغسلةِ الأمواتِ بروحٍ مولودةٍ طاهرةٍ نقيةٍ... لكني ما لبثتُ إلَّا أنْ عُدتُ كمـــــــــــــــــــــــ ـــا كنتُ لاهيةً غافلةً!.
فوااااحسرتاهُ على حالِنا! وإلى الله وحده المُشتكى.
لقد نسيتُ كلّ الذي رأيتُ, وأخذتْني الحياةُ في دوَّامَتِها, وشغلتْنِي بهمومِها الصغيرةِ التافهةِ قبل الكبيرةِ!, وأغرتني بمباهِجِها حتى تَجَرَّعْتُ من كأسِها الغاويةِ حتى الثُّمالة. ولا زالتْ تُكثُرُ عليَّ بخمرِهَا حينًا فأسْكَرُ, وتُمسكُ عني حينًا فأستفيقُ...
ولا أعْلَمُ متى يحينُ الأجلُ أفِي السَّكْرَةِ أمْ فِي الاستفَاقَةِ ؟؟
وهل يَقْتَضِي منِّي لأجلِ أنْ أسترجعَ كلَّ ما ممرَ بخيالي, وما شعرتُ به وما قرَّرْتُه, وما تكَشَّفَ لي من عوراتِ الحياةِ في تلكَ الّلحظاتِ = أَنْ أعودَ إلى مغسلةِ الأمواتِ ثانيةً؟؟
وهل إنْ عُدْتُ إليها ثانيةً... هل سأجَدِدُ تلكَ الذكرى وذاكَ الشعورُ ذاتُه وبنفسِ القدرِ من الحرارةِ؟؟
أم أنّني سأكونُ أكثرُ بلادةً, وسأتصرَّفُ مع الموقفِ بعدمِ اكتراثٍ؟؟
أم أنَّني لنْ أكونَ لَا هذا ولا ذاكَ... وإنَّما سأُسَجِّلُ شعورًا آخرَ لمْ أجرِّبْهُ من قبلُ...
شعورَ أنْ أكونَ أنا الميِّتَةُ بينَ يدي المُغَسِّلاتِ!!
أسألُ اللهَ أن يرحمَنا برحمتِه الواسعةِ, ويُحسنَ ختامَنا وإيَّاكُم, وألَّا يشغلنا بالدّنيا فتكونَ هي أكبرُ همِّنَا ومبلغَ علمِنا. وأَنْ يجمَعَني بِكم جميعًا في جنَّتِهِ فرِحِينَ بِما آتَانا اللهُ منَ النعيمِ الذي يدومُ ولا يزولُ. إنَّهُ وليُّ ذلكَ والقادرُ عليهِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمّدٍ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِمَ.
محبتكم:

حفصة اسكندراني

حرر ونشر في ملتقى أهل التفسير
17/06/1433 - 08/05/2012