الثلاثاء، 10 أبريل 2018

حِينَ يَذْبُلُ النِعْنَاعُ.. أَذْبُلُ!

طوالَ حياتي لم أكن أسيرةً لمشروبٍ من المشروباتِ التي تأسرُ الناسَ وتسيطرُ على تفكيرِهم وتتحكمُ في أمزجَتِهم عادةً، فأنا لا أحبُ القهوةَ على أنواعها واختلافِ مسمّيَاتِها.. لكني قد أشربُ القهوةَ العربيةَ اضطرارا، ولا أكثرُ. وكذلكَ لا أحبُ الشاي بجميعِ أنواعهِ وتعددِ نكَهاتِهِ.. لكني قد أشربُ الشايَ الأخضرَ اضطرارا، ولا أكثرُ. ولستُ أدمنُ شربَ شيءٍ من الأعشابٍ، حتى النعناعُ الذي أكتبُ عنه الآن لستُ من عشاقِهِ ولا من مدمِنيهِ، غير أني اكتشفتُ مؤخرًا أنني أذبلُ حين يذبلُ النعناعُ!.

في العامينِ الأخيرينِ استجدَ عليّ حبٌ واهتمامٌ عجيبين بالنعناع، فحينَ يأتيَني أقطّعُ جذورَه وأهذِّبها، وأرتّبُ سيقانَه وأنظِّمُها، ثم ألُفّه في مناديلَ ورقيّةٍ داخلَ كيسٍ بلاستيكي، لأضعه بعدها في الثلاجةِ، ثم لا أكتفي بذلكَ، فبينَ الفينةِ والأخرى أفتحُ الكيسَ لأسمحَ بدخولِ الهواءِ إليه تارةً، وتارة أحكمُ إغلاقَ الكيسَ حتى لا يتسللُ الجفافُ إلى أوراقِهِ، فإذا ما ذبلَ ذبُلتُ وحزنتُ وضاقتْ عليّ نفسي وانزويتُ. أنا لستُ أذبلُ حزنًا عليه، ولا تعلقًا به لذاتِهِ، لكنَّه بالنسبةِ لي صارَ رمزًا وأيقونةً لأمرٍ آخرٍ لا علاقةَ له بالنعناعِ كمشروبٍ أو مأكولٍ البتةَ!

لقد اختزلَ النعناعُ في مقاييسي معاني الغربةِ عن الأوطانِ وعن الأهلِ والأصحابِ، ولم أكن أعي ذلك أولَ الأمرِ، لكني مع الوقتِ اكتشفتُ السرَّ وراء اهتمامي المستجدِ بالنعناعِ وحزني عليه.

لقد اعتدنا حين نفارقُ بنيانَ مدينتنا الحبيبةَ (المدينةُ المنورةُ) أن نشتريَ حِزَمَا من النعناعِ الطازجِ الآتي من مزارعِها، ثم ننطلقُ بعدها نحو مدينةِ الطائفِ، تاركين خلفنا أرضًا فيها وُلدنا، وعلى أرضها ترعرعنا، وفيها ودّعنا الوالدينِ والإخوةَ، والصحبَ والأحبةَ، والمسجدَ النبوي الشريفَ جنتنا وبَهجتُنا، وأُحُدَ.. الجبل الذي نحبّهُ ويحبُّنا..  نتركُ كلَّ ذلك خلفنا لنتوجَّهُ إلى الطائف حيثُ استقرتْ مراكبنا، وهناكَ لا نلبثُ طويلًا حتى يغلِبَنا الشوقُ إلى المدينةِ ومَنْ فيها، فيشُدَنا إليها شدّا.. فنزورها يومين أو أكثرَ  في إجازاتِ نهاية الأسبوعِ. 
وهكذا نحيا طوالَ العامِ الدراسيِّ ما بينَ مغالبةٍ للأشواقِ واستسلامٍ لها، حتى تنتهي الدراسةُ والارتباطاتُ فنهرعُ نحو المدينةِ لنستروحَ بها. ومن هنا كانتْ قصتي مع النعناعِ!, فلقد صرتُ - لا إراديا -  أتتبع أحوال النعناعَ المدينيَّ في ثلاجتي وأرمُقُهُ، ومن وقت لآخر أتفحّصه وأرقُبُه، ففيه أبصرُتْ عمقَ غربتي ووحشتي، ومن ذبولِ أوراقِه قدّرت زمنَ غيابي عن أهلي وأحبتي. 

في بعضِ الأحيانِ أشعرُ بسعادةٍ بالغةٍ حينَ أنظرُ إلى النعناع وقد قررنا السفرَ إلى المدينةِ وأوراقُهُ العطرةُ لم تزلْ خضراءَ نديةً، لكنه في أغلب الأحيانِ يكونُ مصدرَ حزنٍ مركّبٍ لي، وذلك حينَ يذبلُ فنشتريَ غيرَه ثم يفسدُ فنشتريَ غيرَه.. وأعينَنا لـمَّا تكتحل بعدُ برؤيةِ طيبةَ الطيّبةَ (لا حرمنا الله منها، ولا حرم منها أيّ مشتاقٍ إليها) .

وهكذا.. كلُّ نعناعٍ نشتريه من تربةٍ غيرِ تربةِ طيبةَ أُعدُّه خيانةً وطنيةً، ولا أشعرُ حيالَهُ بأيةِ مشاعرٍ، وحدَهُ نعناعُ المدينةِ الذي يفعلُ بي الأفاعيلَ،🙂 فبيني وبينه أحاسيسَ مشتركة، فكلانا قُطِفَ مرغما ثم أُبعِدَ عن أرضِهِ وتربتِهِ، فبعيدا عن مراتعِ صبايَ لا أرى شمسًا تشرقُ في سمائي لتدفئ روحي، ولا أرضًا أطئها بأمانٍ فتدعمَ ثباتي وشموخي، ولا شربة ماءٍ محملةً بالحياةِ تُضَخُ في عروقي، وكذلكَ هو.. ففي قلب ثلاجتي لا شمسَ هناك لتدفِّئَ أوراقَه وغصونَه، ولا تربةً حانيةً تحتضنُ أصلَه وجذورَه، ولا ماء نقيا يشربه فيسري بالحياةِ في عروقِهِ!

هذا النعناعُ.. وهذِهِ أنا.. 😊 وها قد سطَّرنا علاقةً من أعجبِ ما قد ترى وما قد تسمعُ، فياربِّ لا تبتلي بالغربةِ قلباً محباً يبريهِ الحبُّ برياً، اللهم وآنسْ وحدةَ كلَّ كسيرٍ مبعدٍ عن أهله محرومٍ من وطنِهِ، واكتبْ لنا يا ربّ في هذهِ البقاعِ الطاهراتِ عيشاً طيباً مباركاً فيه، واجعلنا من أهلِ مدينةِ رسولِكَ صلى الله عليه وسلم ومِن أهلِ بقِيعِها يا ربَّ العالمينَ.

🌹🌹 بقلمي / حفصة اسكندراني 🌹🌹