الأربعاء، 10 يونيو 2020

وتَلَكَّأْتُ هُنَيْهَة.. (مشهد يختزل أحداثي زمن كورونا)

حينَ مدتْ يدها لتتكئَ عليَّ؛ تلكأتُ هُنَيهة!!، وهالني أنّي تلكأتُ، وظلّ تلكؤي هذا جاثما على صدري، يؤلمني ويقضّ مضجعي كلّما تذكرتُه. ألا قاتلَ اللهُ ذلك (الفايروس) وما صاحَبه من إرجافٍ وقلقٍ! ألا قاتلَ اللهُ جبني وخوفي وهواجسي، التي جعلتني أحارُ لثانيةٍ في الاستجابةِ ليدِها الممدودة لي، وقد كانت ترجو أن أعاونها في اعتلاءِ درجاتٍ مرتفعةٍ من الرخامِ المطلِّ على بقيعِ الغَرْقَدِ في مدينةِ الحبيبِ المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.

 كانتْ مكْلومَةً حزينةً لفقدِ أخيها، تُتمتمُ بالدعاءِ له تارةً، وتشهقُ بالبكاءِ عليه تارةً، تحدّثهُ بعباراتِ الوداعِ، وتحكي له عن لوعةِ الفراقِ، ثم تهنّئهُ بحسنِ الخاتمةِ، وتيسيرِ الدفنِ في هذا المكان المباركِ، وهذا الزمان المباركِ (رمضان)، وكأني بها تخالُه يسمعُها، وينصتُ لهمهماتِ حديثها، ويتألمُ لبكائِها، ويتلقى تهنِأتَها بغبطةٍ، بل ويبادلَها عباراتِ الوداعِ.

 وتحتِ أشعةِ الشمسِ الحارقةِ في نهارِ رمضانَ في اليومِ التاسعِ عشرَ من أيّامهِ المباركةِ.. وأمامَ أسوارِ البقيعِ؛ اعتليتُ درجاتِه المرتفعةِ بعد أن خرجنا من مغسلةِ الأمواتِ، وصلى الرجال في المسجد النبوي على الأموات، فوقفتُ هناك لأنظرُ في أيِّ اتجاهٍ وإلى أيِّ بقعةٍ ستتجهُ جموعُ الرجالِ الذين يحملونَ جسد خالي الحبيب (رحمهُ الله)، وبينما كنتُ أتأملُ بهيبةٍ تلك المساحاتِ الخاشعةِ الممتدةِ من ثرى دنيانا وحتى الآخرة؛ إذ بها تناديني وقد مدَّتْ يدها لي - دون قُفازٍ - كي أسحبَها لتصعدَ بجواري!.. فتلكأتُ حينَها!!، نعمْ تلكأتُ عن التقاطِ يدِها، والمبادرةِ في مدِّ يدِ العونِ لها، وللأسف هي لم تكنْ أيَّ نكرةٍ من الناسِ حتى أتغاضى عن الاستجابةِ لها، وإنما هي كانتْ والدتي الحبيبة!!!، لا أدري تحديدا ما الذي جعلني أتجمدُ في مكاني للحظاتٍ؟!!، هل لأني توقفتُ عن مصافحتِها واحتضانِها وزيارتِها مُذْ بدأتٍ الأزمةُ، وذلك لخوفٍ مني عليها بناءً على التحذيراتِ الطبيةِ؟؟، أم أنني تلكأتُ حين تذكرتُ انتشارَ الوباءِ بين أهلِ المدينةِ؛ وبالأمسِ القريبِ أصيبَ به أحد إخوتي مع جميعَ أفرادِ أسرتِه، ولازالوا حتى تلكم اللحظة في الحجر الصحي؟؟ أم أنني تلكأتُ لأني أسكنُ في نفسِ المبنى الذي يقطنُ فيه أهلُ زوجي وأخالطهم يوميا، ولأجلِ ذلك أخشى أن أخالطَ أحدا خارجَ المنزلِ - كما يحذرُ الأطباءُ - فأعودُ إليهم بما يسوءَهم لا سمحَ اللهُ؟؟

 وأياً ما كانتْ الأسبابُ والمبرراتُ التي جالتْ برأسي حينها؛ وأيا ما كانتْ درجة منطقيتِها؛ فالمحصلةُ هي أنني قد تلكأتُ عن جذبِ اليدِ المباركةِ التي مُدّتْ لي لثوانٍ عدةٍ، هذه هي الحقيقةُ الوحيدةُ التي تعنيني وتؤلمني بين هذه الأسطرِ، فذاكرتي مذ وعيت على الحياةِ لا تحملُ موقفا واحدا ترددتْ فيه هذه اليدُ الحانيةُ عن مساعدتي وحسنِ العنايةِ بي.. فما أشدُّ لوعتي!

 وبعدَ مرورِ عددٍ من الثواني على وضعي المتجمدِ ذاك.. وقبلَ أن تسحبَ والدتي الحبيبةُ يدها كسيرةً حزينةً؛ حسمتُ أمري وهويتُ إلى حيثُ تقفُ، لأجعلَ من كتفي متكأً لها، ومن ذراعي عصا تستندُ عليها، فاتكأتْ - رعاها الله - عليَّ وصعدتْ (دون الحاجة للملامسة)، لتطلّ على القبورِ فتودّعَ أخاها الحبيب رحمهُ اللهُ تعالى وأحسنَ مثواه.

 وهكذا طُوِيَ المشهدُ على تلكَ التلّةٍ، لكنه لم يطوَ داخلي مذ ذلكَ الحين، ولا أدري هلْ أدركتْ والدتي تلكؤي وقرأتْ فيه شيئا من مخاوفي؟ أم لم تنتبه لذلك البتّة؟ لكني أنا من رصدتُ تلك اللحظاتِ الموجعةِ، والتقطتُ لها تسجيلا مفصلا في ذاكرتي، اختزلَ كلَّ ما مرَّ بنا من أحداثٍ في زمن كورونا، حتى أنه استفزَ قلمي، فجَرتْ أحباري تحكي تلكؤي وترددي في ذلكَ الموقفِ، بل حتى تصرفي وتحايلي على لمسِ يدِها.. آلمني وأوجعنَي، فلو كانتْ هي مكاني ومددتُ لها يدي أطلبُ عونَها؛ لما ترددتْ ثانيةً في التقاطِ كفي بكل حنانٍ وترحابٍ، فواحرّ قلباهُ!!، لقد زعزعتنا المخاوفُ وتلاعبتْ بعقولِنا، ثم لازالتْ تزحفُ شيئا فشيئا حتى عبثتْ بعواطفِنا، ففرّقتْ بين الأحبةِ، وصنعتْ بينهم سياجا لا مرئيا من التوجسِ والقلقِ، وسواءٌ أكان ذلك باسمِ الأنانيةِ والخوفِ المبالغِ فيه على النفسِ، أو كان بدافعِ المحبةِ والحرصِ على سلامةِ الآخرين؛ فالصورةُ الخارجية للأسف لا تبدو مختلفةً كثيرا!.

 لطالما أردتُ في هذه النازلةِ التي ألمتْ بنا تدوينَ جملةً من مشاعري في مواقفَ مختلفةٍ، لطالما أردتُ الكتابةَ عن نوباتِ القلقِ التي تقضمُ راحتنا وتعبثُ بطمئنينتِنا كلما تابعنا - عن كثبٍ - مستجداتِ هذا الوباءِ عالميا، لطالما رغبتُ في الكتابةِ عن حالاتِ التقوقعِ الأسريِّ التي اضُطررنا لها.. عن ايجابياتِها وسلبياتِها، عن مشاهدَ رائعةٍ منها، وأخرى ساخرةٍ، وكم هممتُ بالكتابة عن مشاعري الحزينةِ حين أُغلقتْ المساجدُ، وحين حُرمنا من الصلاةِ في المسجدِ النبويِّ لشهرين ونصفِ الشهرِ تقريبا خاصة في شهرِ رمضانَ، أردتُ كذلك أن أُسيلَ مدامعي مداداً أدوّنُ به حزني على رؤيةِ صحنِ الكعبةِ المشرّفةِ وهو خاوٍ من الطائفينَ، بصورةٍ تُدمي الروحَ وتؤلمُها، وتوجعُ القلبَ وتمزقه، فكأنَّ نصلا حادا قد غُرسَ في جسدي، وأنَّى للألمِ أن يتوقف إلا بنزعِه، وعودةِ الزحامِ إلى ذلكَ الصحنِ المباركٍ.

أردتُ الكتابةَ أيضا عن العجزٍ والقهرِ الذي انتابني وأنا أقفُ على بعدِ أمتارٍ من أخي وزوجته وأطفالهما في حجرِهم الصحيّ، أنظرُ إليهم وينظرون إليّ، نبتسمُ بألمٍ، ولا يجرؤُ أحدُنا على الاقترابِ من الآخرِ، حتى الصغارُ تراهم وقد كُبِّلتْ طفولتهم وعفويتهم في احتضان أحبتهم.. فإذا بهم تماثيلَ كئيبةٍ متحجرةٍ، أردتُ بقوةٍ أن أُجري قلمي وأنفسُ عن مشاعري الثكلى الأيامَ التي تلتْ حالةَ الوفاةِ لألقي الضوءَ على رحمةِ الله بنا؛ إذْ شرعَ لنا العزاءَ نواسي به بعضنا البعض، لا أنْ ينزَوٍي أهلُ الميّتِ فُرادى؛ كلٌ يجابِه الأحزانَ ومرارةَ الفقدِ وحدَهُ، دونَ أن يجدَ صدرا ينبضُ بنفسِ أوجاعٍه وألمِه ليضمُه إليه ويهَدْهِدَهُ، فيخففَ عنه مصابَهُ، ويحملَ عنه شيئا من أثقالِ روحٍه، وتلك نعمةٌ لم ندرك أهميتَها حتى اكتوينا بالحرمانِ منها.

 ورغمَ رغبتي في تدوينِ مشاعري في كلِ هذه الأحداثِ؛ فقد اختزلَ موقفُ تلكؤي عن التقاطِ يدِ والدتي الحبيبة كلَّ المشاعرِ وفاقها، حتى ابتلعَ جميعَ تلك الأحداثِ.. حزينها وسعيدها، فكم هو مؤلمٌ أن يحولَ شبحٌ لا مرئيٌّ بينك وبين احتضانِ أحبتِكَ وملامستهم، شبحٌ ذو حجمٍ تافهٍ مقارنةً بحجمِ الدمارِ النفسيِّ والتباعدٍ الإنسانيِّ الذي أحدثَهُ في المجتمعات، فلا أنتَ تراه فتنازله وتحاربه، ولا أنتَ تعلمُ من أيِّ بابٍ يأتيكَ فتتجنبًهُ، فسبحانَ اللهِ العظيم الذي أرادَ أن يؤدّبَ عبادَهُ، ليريهم كيف يختلُّ توازنُ حياتهم، وتنهارُ نُظُمُ معيشتِهم، وتعجزُ قوتُهم وجميعُ إمكانياتِهم، وتحارُ عقولُهم وتفزعُ قلوبُهم من مخلوقٍ صغيرٍ كهذا، لا يكادُ يرى بالعينِ المجردةِ.

 لقد أزالَ هذا الفايروس عن أعينِنا غشاوةً تلو غشاوةٍ، وأزاحً حجابا إثرً حجابٍ، فإذا بنا نُبصرُ نعمَ الله المحلّقةِ بنا، والتي - وإن ابتلينا بفقدِ بعضِها - فقد بقي لنا منها مدَّ البحار نعما؛ لا يُعدُّ قَطْرُها ولا يُحصى، وقد زانَها وتوَّجَها: لطفَ اللهِ الذي داوانا بشهرٍ رمضانَ المباركٍ في هذا التوقيتِ العصيبِ بالذات، فطابتْ فيه أرواحٌ وأرواحٌ، وتخففتْ فيه القلوبُ مما لحقها من حزنٍ وشتاتٍ، وقلقٍ وانكساراتٍ، فلله الحمدُ والمنّةُ.

 جعلنا اللهُ وإياكم من الشاكرينَ الذاكرينَ القانتينً، وغفرَ لنا ولوالدِينا وأزواجِنا وذرياتِنا وأحبتٍنا وجميعِ المسلمين، وعافانا وإياهم من كلِّ سوءٍ ومكروهٍ.