أحداث الجزء الأول من هنا
وأحداث الجزء الثاني من هنا
وأحداث الجزء الثالث من هنا
أحداث الجزء الرابع من هنا
أحداث الجزء الخامس من هنا
باغتها.. بل باغت نفسه بسؤالها:
ما بها ابنة خالتي.. تقولين أنها مريضة؟..
فأجابته: ألم أخبرك من قبل؟؟
وكانت المفاجأة..
مسكينة وفاء.. إنها تذبل وتذبل, ولا
أحد يعرف ما بها, لقد ظننا أنها أصيبت بمرض ما وقضت أياما في المشفى, لكن الأطباء لم
يشخصوا مرضها, فأخرجوها من المشفى وعادت إلى المنزل وحالتها تزداد سواء وانطواء, وقد
تأكد لنا أنها إما مسحورة أو معيونة, فلقد رفضت اتمام عرسها, وأشعلت النار في فستان
زفافها, وألقت بمشترياتها وتجهيزات عرسها وكأنها أصيبت بالجنون, وانقطعت كذلك عن
وسائل التواصل الاجتماعي فلم نعد نرى لها خاطرة منذ ذلك اليوم, ومسكينة خالتي منذ ذلك
الوقت وهي تحضر لها مشايخ, وتذهب بها إلى أطباء لعلها تتعافى وتعود الى طبيعتها, ورغم
أنها تحسنت إلا أنها لا تخرج لملاقاة أحد أبدا, وقد انقطعت عن دراستها, وخالتي المسكينة
أصبحت تخشى تركها وحدها, لذا اعتذرت عن أشياء كثيرة في حياتها ومنها المجيء إلينا.
على الطرف الآخر كانت أصابعه تقبض
على الهاتف بشدة حتى ابيضت مفاصلها..
سيل المفاجئات كان فوق احتماله وتخيله..
إنها لم تتزوج إذن؟ إنها لا تنتظر طفلا؟ إنها لم تزف لغيره؟ لم تَصْدُقْ إذن فيما كتبتْ!
ولم تكمل مشوارها الذي قررت ان تخوضه باستسلام!.. لن تحكي لحفيداتها وبناتها أنها أحبت
رجلا ثم ارتبطت بآخر!.. ثمة أمل خجول يلوح له في الأفق رغم تراكم السحب والضباب.. حتى
أنه لم يستطع أن يكمل المكالمة.. فأغلق الهاتف ومازال صوت شقيقته ينساب عبر الأثير..
اتصلت أخته.. لم يرد عليها, بل بالأحرى
هو لم يسمع جرس الهاتف فالأصوات داخله كانت أعلى من أي صوت..
هل صحيح أنها مرضت مرضا لم يشخصه الأطباء؟
أم أنها أصيبت بعين أو سحر بالفعل..
فالعين حق!
أيا كان ما أصابها.. لا يهم, سيعود
لأجلها, سيسخر حياته لعلاجها, وحين تتعافى سيعيشان أجمل حياة..
ترى هل يمكن للأحلام أن تتحقق؟
بكى.. بكى من أعماق أعماقه.. ثم ضحك..
ثم قام ورقص, الصدمة جعلته مضطربا لا يعرف ماذا يفعل؟.
انقطاعها عن مدونتها وعن كافة
وسائل التواصل الاجتماعي التي كانت متألقة فيها لم يكن بسبب انشغالها بالزواج إذن,
ولم يكن بأمر من زوجها الغيور كما تخيل, بل كانت مريضة لا يُعلم ما بها!!
مر أسبوع واحد بعد تلك المكالمة..
لم يتردد كثيرا في تحديد هدفه, لقد اعتذر عن استكمال دراسته, وأنهى جميع أوراقه
وسلم سكنه, وها هو يحمل كل آماله معه في مقعد الطائرة عائدا إلى وطنه.
العودة الى الوطن لها مذاقها الذي
لا يشبهه شيء.. كان فرحا بعودته فرحا جما,
كما صبي انتزعوه من حضن أمه ليذهب
إلى المدرسة, هو يعلم أن المدرسة ستجعل منه رجلا قويا, لكنه في نفس الوقت لا يرى
مبررا لفراق منبع دفئه الوحيد في هذه الحياة, وطوال يومه لم يهنأ بمدرسته الجميلة
ولا بحقيبته ودفاتره وأقلامه الجديدة التي كان بالأمس فقط فرحا بها, صوتها..
صورتها.. بل رائحتها.. ودفء حضنها وملمس بشرتها.. أحلام سيطرت على خياله طوال وقته,
هو يخشى ألا يعود إلى حيث الأمان.. إنه يخشى الضياع والحرمان, وبينا هو يعالج يأسه
وبؤسه ويمسح دموعا اغترفها من بحر عينه؛ إذ بسائقه شاخصا أمامه قد أتى ليصطحبه إلى
منزله.. إلى أمه.. إلى حيث الأمان, إلى حيث الدفء, إلى حيث حياة الدلال والدعة
والحب.. فإذا به يقفز على سائقه قفزة الضائع من أهله أو العائد إلى الحياة بعدما
عاين الموت, فيضمه ضمة عرفان, ويقبل رأسه وكفيه بامتنان, تماما كما كاد صاحبنا أن
يفعل مع كل موظف من بلده رآه في المطار, وكأنهم مسخرون ومبعوثون باختيارهم في مهمة
خاصة لنجدته وحده!.
ومن نافذته في الطائرة لاح له الوطن الحبيب في
الأفق فرآه بعين وجدانه قبل أن يبصره بعين رأسه, فتجمد لوهلة, وحدها دموعه التي
راحت تشق طريقها أخاديد على خده, وظل عاجزا عن الحركة وعن كل تعبير, فكأن روحه استأذنته
فتحررت منه بضع ثوان لأجل أن تحلق في هذا الفضاء الطاهر, لتحتضن تلك الجبال وهذه
الوديان وتلك الصحاري الشاسعات, تود لو بمقدورها احتضان كل ذرة تراب فيها.. إنه
تراب الوطن الذي لا يقدر بثمن!.
ومنذ هبطت طائرته مر كل شيء كما
الأحلام, لم يتوقف به الزمن إلا حين ارتمى في حضن أخته وتعلقت هي برقبته, وقتها
أدرك حقيقة واحدة.. كم كان أحمقا بهروبه ذاك! فثمة أدواء لأسقامنا الروحية لا تحتاج
منا إلى هروب وغربة ورحيل, دواء نجده في أحضان أحبتنا يضاهي أمصال الغربة المركزة
وجرعات جلب النسيان التي نرحل للبحث عنها!
كل شيء في منزل والديه كان يبعث
اليه بنظرات عتاب صامتة, وكان على استعداد تام لاستقبال هذا اللوم من الأحياء قبل
الجمادات, فحقا هو نادم لفراق بعضه وأصله ومنبته, وحين وقف في غرفته شعر بأن
الثمانية أشهر التي قضاها في غربته قد طويت, رغم طولها ومعاناتها وقسوتها.. طويت
حتى بدت كالحلم المغلف بالضباب, وبعودته هذه كانت العودة الى الواقع بعد انقشاع
ذلك الضباب, فكأن سفره ببساطة كان غفوة, ويقظته عودة لاستئناف الحياة.
بقي أن يخطط من أين يبدأ؟ وكيف
السبيل للوصول إلى حبيبته "وفاء".
انتهى الجزء السادس ونستكمل أحداث
القصة بمشيئة الله في الأجزاء القادمة
همسة: