مررت بأطفالي وهم يشاهدون فيلما كرتونيا انتقوه من اليوتيوب بعدما استأذنوني في مشاهدة كرتون اسلامي, وقد اقتربتُ
من الغرفة لآخذ بعض الأغراض وأنصرف لشأني, فحانت مني التفاتة إلى الشاشة فإذا
بفيلم كرتوني قديم بدائي في تقنية صناعة أفلام الكرتون التي اعتدنا مشاهدتها, حتى
بدى كالشيخ الهرم المتهالك بين جيل فتيّ من الشباب!, لكن المشاهد التي رأيتها فيه
كأنها مرت علي من قبل, وكأن أصوات المدبلجين آتية من زاوية ما في ذاكرتي, فتوقفت
للحظات أتابع ما أرى وأطابقه مع ما في سجلات الذاكرة, فتيقنت أنني شاهدت هذا
الفيلم وأنا صغيرة, لكني لا أذكر من أحداثه شيئا, ولأني أعرف أن ذاكرتي من النوع
الذي لا يسعفني في تذكر الأحداث.. وهي مستعدة لفضحي واحراجي في أي موقف؛ قلت في
نفسي: وما أهمية تذكري لأحداث هذا الفيلم؟.. فيلم تافه.. وأنا لن أعصر مخي لأجل
تفاهات!, ثم هممت بالخروج من الغرفة.. وقبل خروجي إذ بومضة من الماضي تومض في عقلي
فجأة فألتفتُ إلى صغاري وقلت لهم: هذا الفيلم لن يكتمل, بل سيقطع الآن وقبل
نهايته!, نظر إليّ الصغار بقلق.. فأحداث النهاية قد احتدمت, وهم يرقبون اللحظات
القادمة باهتمام متصاعد.. فكيف سيقطع الفيلم قبل النهاية؟, وما هذا التخمين
المتشائم الذي أخطأت في توقيت اخبارهم به؟.
لكنهم وبحركة من (الماوس) وجدوا
أن ثمة دقائق باقية على نهاية مقطع اليوتيوب, ما يعني أني مخطئة!, فوجهوا لي نظرات
استغراب وتعجب!, وأنا في مكاني واجمة!.. تتلاحق الصور الآتية من ذاكرتي وتنزلق نحو
بؤبؤة عيني.. وبإصرار رهيب رددتُ كلامي: لقد شاهدت هذه الأحداث من قبل لكن هذا
الفيلم لن يكتمل, هنا الآن ستوقف!.. لكن الفيلم لم يتوقف واكتملت أحداثه.
لا أدري ما الذي دفعني لمشاهدته حتى النهاية؟,
هل هو اصرار دفعني لانتظار الانقطاع حتى آخر لحظة من الفيلم؟ أم هو فضول لمعرفة
المقطع الذي فاتني وكدر علي بضع لحظات من طفولتي؟ أم هي طفولة من الماضي أتت
في تلك اللحظات لتسكنني حتى أنني تابعت النهاية باهتمام فاق اهتمام صغاري :).. لست أدري.
لقد اكتمل الفيلم بالفعل.. وتذكرت
بعضا من أحداثه, وتذكرت أكثر أنني اخترعت له نهايات من خيالي, ربما هذه واحدة
منها, فمنذ صغري وأنا أكره النهايات المفتوحة وكذلك النهايات التعيسة, فتلك
النهايات تدفعني لنسج نهايات أخرى من خيالي حتى يهدأ بالي وتقر عيني, خاصة في حال
القصص ذوات النهايات المحزنة, فمن السهل أن تحاصرني رواية ما بأذرعها الأخطبوطية
الكئيبة حتى تنتقل الكآبة من قلب الورق إلى قلبي وأعماقي مباشرة, لذا في بعض
الأحيان أسمح لنظري باستراق بضع نظرات على السطور الأخيرة في الرواية التي أقرؤها خاصة
حين تساورني الشكوك أن كاتبها يتجه بي نحو نهاية حزينة, فإذا ما ثبت لي أنها دراما
محزنة توقفت قبل نهايتها وألجمت فضولي لأنقذ نفسي من الفخ القاتل الذي ينتظرني, ثم
أعمل على أن أضع لها نهاية مشرقة ترسم على شفتي ابتسامة رضى حين أضع رأسي على
وسادتي, وقليلة هي المرات التي سقطتُ فيها في الفخ, وأظن أن المنفلوطي هو الكاتب الوحيد الذي حاك لي أشهر
فخاخ في حياتي.. وأجملها في نفس الوقت, لكن شتان بينه وبين الكثير من الأدباء المعاصرين..
ففي سطور رواياتهم أشعر بمكرهم واستخفافهم بقارئهم وبمشاعره, فكأني أرى أحدهم ينفث
دخان غليونه البغيض وهو ممدد باسترخاء في جو مكتبه الأنيق المكيّف.. يملي درامته
المفتعلة على قارئ قد ذاق من الأحزان أكثر مما ذاق هذا الكاتب المنعّم, لكن
المنفلوطي يشعرك بأنه قد حزن قبل حزنك وبكى قبل بكاءك.. وما جاءت حروفه على هذه
الصورة المؤلمة إلا لتعكس شيئا من جملة آلامه, وقطرة من بحر أحزانه, فتشعر حينها أنك
راض عن عبث المؤلف بمشاعرك كل الرضى.
نعم لقد انتهى الفيلم الكرتوني
الذي اكتشفت كم كان تافها ساذجا.. بل هو نموذج من الأفلام التي تنمي التخلف العقلي
عند الأطفال بامتياز.. لقد انتهى الفيلم وانصرفنا بعده, لكن ذهني أبى أن ينصرف..
ترى ما السر وراء بتر نهايته من النسخة التي شاهدتها وأنا صغيرة؟ :) فلقد كان والدي رحمه الله حريصا على دفع الأموال
بسخاء من أجل شراء أفلام الكرتون العالمية المميزة وعلى رأسها تلك الأفلام
الإسلامية أو بالأصح التي أسلمتها أصوات المدبلجين, فجاءت إسلامية بالصوت لا بالفعل..
فيأتيك مشهد السكران على أنه رجل مستقيم لكنه أسرف في السهر بعض الشيء حتى اختل
تركيزه.. ومشهد الذي يناجي الآلهة ويتوسل إليها كالناسك المتهجد بين يدي الله, ثم تأتيك
الأخوة لتغطي على كل علاقة حب واعجاب بين شخصيات تلك القصص, وهذه محاولات تشكر لهم
بالتأكيد لكن ذلك لا ينفي خروج بعض الأفلام والمسلسلات الكرتونية بشكل سمج.. بل هو
غاية في السماجة والاستخفاف بعقول الصغار قبل الكبار!, ومع ذلك كنا سعداء بشراء
أفلام الكرتون المدبلجة أيا كان مستوى سماجتها, وكنا نشتريها من محلات الفديو التي
انتشرت آنذاك في شوارع مدينتنا (المدينة المنورة), بالطبع لم يعد هناك شيء اسمه
محلات فديو في وقتنا الحالي, فلقد انقرضت جميعها, ولم يعد الجيل الجديد يعرف شكل
شريط الفديو أصلا, فيال السخرية, لقد تسارع الزمن بشكل عجيب وهو يصر أن يوجد فجوة
عميقة بين أبناء كل عشر سنوات منه, فعشر سنوات في مؤشر التقدم التكنلوجي باتت تعني
قفزة من عصر رجل الكهف إلى عصر رجل الفضاء دفعة واحدة... وهذا يعني أن جهاز الفديو
على سبيل المثال سيعرض بعد عدة سنوات في متاحف الأجهزة
القديمة بجوار التلفزيون الأسود × أبيض وأجهزة الهاتف والراديو الأولى التي صنعها
الإنسان.
لقد ابتلعنا الثقب التكنلوجي
الأسود المتمدد في فضاء الكون بشكل سريع, وفي فلكه عشرات الأقمار الصناعية ومئات القنوات
الفضائية, أعقبها الثورة الأكبر في عالم الاتصالات وهي (الانترنت) الذي استطاع
احتواء العلوم والفنون جميعها, والتاريخ بماضيه وحاضره, وكل ما يمكن تخيله, ودخلت
هذه التقنية كل البيوت وغزتها, فقلما نجد حولنا بيتا يخلو من الإنترنت أو يخلو من قنوات
التلفزة سواء المحافظة منها أو غير المحافظة, وأذكر حين كنت صغيرة كان أغلب الناس الذين
يمتلكون جهاز تلفاز يشاهدون القنوات الأرضية (القناة الأولى السعودية والقناة الثانية)
فقط, وفي بعض المدن الساحلية كمدينة جدة وينبع كانت اللواقط تلقط قنوات أرضية
وقنوات فضائية من الدول المجاورة كمصر والسودان, وأذكر أن اطلاق قمر صناعي عربي
كان حدثا كبيرا يشبه نزول أول إنسان على سطح القمر, لكن ذلك الحدث لم يكن يعنينا
كثيرا, فوالدي لا يسمح بوجود أي قناة في منزلنا, صحيح أنه سمح لنا أيام حرب الخليج الثانية بمتابعة البث السعودي لمعرفة أوقات الغارات التي كانت صافراتها تقطع البث في أي
لحظة, ولمشاهدة بعض أفلام الكرتون التي أقنعناه أننا لن نشاهد غيرها.. وأيضا
لمشاهدة نشرات الأخبار التي تتصدق على مشاهدها في ختامها ببضعة أخبار عالمية
محدودة كمكافئة لصبر المشاهد على متابعة
ساعات من: (استقبل..., وكان في استقباله..., ثم وُدِّع بما استقبل به من حفاوة,
وكان في وداعه...)!
وكبيت ملتزم كان يُنتقد علينا
أننا نمتلك جهاز الفساد المدمر المسمى بالفديو!, لكن والدي كان التزامه من طراز
مختلف ساعده على ذلك انفتاحه وكثرة سفراته وزياراته لمختلف قارات العالم, فكان يرى
أن الفديو أفضل من متابعة قنوات التلفاز, لأنه يتيح له أن ينتقي لنفسه ولأسرته ما
يريد مشاهدته, ويتيح له التحكم في وقت المشاهدة, والميزة الأهم أنه كان يطلب من
محلات الفديو التي يتعامل معها أن تقطع المشاهد السيئة من بعض الأفلام الأجنبية
الهادفة والراقية!, وكان حريصا منذ زار مدينة هوليوود السنيمائية ألا ننبهر بأي مشهد
في أفلام الغرب حتى نحلل كيف تم تصويره؟ وما هي التقنيات المستخدمة في إنتاج هذا
الفيلم؟, لنواكب أسرار التصوير وفنونه التي تتجدد وتتطور يوما بعد يوم, لكني لم
أعد أتابع آخر ما توصلت إليه تقنيات التصوير السنيمائي منذ وقت طويل, ولم تعد
تشغلني كثيرا, وأظن أن آخر ما تابعته باهتمام في هذا الجانب كانت ثورة الماتريكس
في التصوير, ومنذ ذلك الحين بدأت أكره السنيما وعالمها التافه بكل تفاصيله, وكان
ذلك تزامنا مع سقوط برجي التجارة العالميين وما تبعهما من أحداث ساخنة على الصعيد الإسلامي
والعالمي, قد يبدو أنه لا علاقة بين السينما والسياسة إلا في رأسي, لكن علاقة ما
تجعلني أربط بينهما برباط وثيق, فلقد أدركت خسة هؤلاء جميعهم سواء أكانوا ممثلين
خلف كاميرات هوليوود أم خلف كاميرات البيت الأبيض أو أي كاميرا سنيمائية أو منصة
سياسية في أي مكان من العالم.. فجميعهم إلا من رحم الله مشتركون في الكذب والنفاق والتفاني
في خدمة أجندات خبيثة من أجل تزيف الحقائق والتاريخ, وتمكين الظالم وتغييب الحق,
وحرق الإنسانية باسم الانسانية, وصنع أمجاد واهية لمن حقه التجريم والتسفيه, وسرقة
البطولات وتشويه رموزها, وافساد الشباب واشغاله بشهواته وتغييب عقله وجعله مجرد
حيوان في قطيع تابع للغرب... الخ, لذا هم يستحقون مني كل الكره والاحتقار مهما
بلغت حضارتهم ومهما بلغ تطورهم المادي الذي يتعرى كل يوم من الأخلاق والمثل التي
يدعون امتلاكها.
لا أدري ما الذي فجر بركان غضبي
في ثنايا حديثي عن فيلم كرتوني تافه انقطع قبل نهايته منذ عشرين سنة أو يزيد :) حقيقة..
لا أملك إلا أن ابتسم حين أعد السطور والخواطر التي استخرجها من داخلي هذا الفيلم
الذي اكتمل مشهده الناقص اليوم! وليته ما اكتمل! فلقد أشغلني بالتفكير والتحليل
لحل لغز انقطاعه, حتى أنني لم أنس مراجعة تحليلاتي التي خمنتها وأنا صغيرة عن سبب
انقطاع الفيلم, وقد بدت لي تحليلاتي تلك مضحكة فعلا.. فلا يمكن أن يكون المدبلجون
قد انصرفوا عن الفيلم قبل نهايته لطارئ ما كإفلاس المنتج مثلا, ولا لأنهم اكتشفوا
أن الفيلم في نسخته الأجنبية كان ناقصا من الأساس بسبب موت الرسام أو اعتزاله الفن
مثلا, بل إن التحليل المنطقي الذي تأكد لي بعد هذه السنوات هو أن الخطأ سببه صاحب
محل الفديو المحترم, فسعة الشريط لم تكن مناسبة لزمن الفيلم بالتأكيد.. فضاعت
الدقائق الأخيرة بغباء واستهتار لا مبرر له, وهذا يعد غشا تجاريا يستوجب استرجاع ثمن
الشريط ومحاسبة الفاعل! :)
بنت
اسكندراني
كتب ونشر 8 شعبان 1436هـ