أحداث الجزء الأول من هنا
وأحداث الجزء الثاني من هنا
الجزء الثالث:
تناول الأوراق فإذ بها ضمن ملف فتح على الصفحات
الأخيرة منه, تناولها وهو لا يدري أنه أمام كلمات كتبتها الفتاة منذ ساعات فقط, كلمات
أودعتها مكنون قلبها, وسرا من أسرار فؤادها, وجملة من أشجانها وأحزانها, وهي تعلم علم
اليقين أنها لن تبرح مكانها الذي كتبت فيه, ولن تتحرك قيد أنملة خارج عالمها الخاص
بها, بل في أحسن الأحوال ستقبر داخل هذا الملف, هذا إن لم يكن نهايتها الإتلاف والحرق,
تماما ككل ملفاتها ورسائلها التي خطتها له, ورغم إدراكها لذلك ظلت طوال ليلها تكتب
وتكتب, لا يصرفها عن الكتابة سوى مسح دمعة أو اطلاق زفرة أو الاستغراق في أعماق فكرة,
فتشتد أناملها الرقيقة على القلم حينا حتى تستحيل الكتابة به نحتا, وحينا بالكاد تلامس
الحروف صفحة الورق من خفتها ورقتها, إنها الرسالة الأخيرة التي ستكتبها لطيفه الذي
يسكن روحها وخيالها, وما علمت أن هذه الرسالة بالذات وهذا الملف الصغير بخواطره
القصيرة قد قدر له ـ دونا عن جميع ما خطت له من رسائل وخواطر وأشعار ـ أن يقع في يده
هو, وبطريق يستحيل أن يخطر لها على بال.
أمسك الملف على الورقة الأخيرة
منه, وألقى بجسده المنهك على الكرسي وبدأ يلتهم سطورها:
"سأمضي في طريق أرغموني على المضي
فيه باستسلام ولن أحيد عنه قيد أنملة, وسأطوي صفحتك يا سيدي, ومعها سأهجر كتابة خواطر
الحب وقصائده, إنها الخاطرة الأخيرة, وأفكر في الاحتفاظ بها رغم المخاطر.
فاطوي صفحتي يا سيدي وخلفها وراءك
كما طويتَ ماضيك وذكريات منشأك, وقررتَ الهروب, فحقا في بعض الطي والنسيان حياة, وأرجو
أن يكون لديك مستقبلا من الجرأة قدرا يجعلك تحكي حكايتك البائسة هذه لأبنائك وأحفادك,
ومن عرفت من العشاق لتواسيهم وتسليهم, احكي لهم عن كيف يقتل المرء نفسه بنفسه, وكيف
يمكن للتردد وعدم الثقة أن يحيل أجمل مشاعر الحب إلى واقع قهر وألم وهروب.
أما بالنسبة لي فأنا أعدك أنني سأروي
قصتنا لبنياتي وحفيداتي, نعم سأرويها لهن بكل جرأة.. لكن بلا تفاصيل, سأجعلها لهم بلا
ملامح ولا هوية ولا وطن ولا مطية كما هي عادتي, لكني سأستفيض في سردها, وسأحكي لهن
كيف يمكن لفتاة أن تزف لرجل لا تحبه لكي تنتقم من طيف رجل تعشقه.
فوداعا أيها الهارب الملثم!"
صدمة جمدت ملامحه, بل جمدت
استيعابه حتى بات مشتتا.. لم يستوعب من عباراتها حرفا, وبحركة آلية قلب الصفحات,
وفي أعلى كل صفحة نقشت ذات العبارة: إلى أين ستذهب أيها العملاق الملثم؟
أغلق الملف فوجده معنونا بذات
العبارة!, فعاد للصفحة الأولى وأخذ يقرأ عله يفهم شيئا:
"سأخالف عادتي وسأشرع في نثر
حروفي بلا مقدمات, فلقد سئمت من المقدمات!
كل المقدمات يأتي بعدها لب المواضيع
إلا مقدماتي.. ففيها أضيع, وكلما هممت الدخول إلى ما وراءها جبنت نفسي وتقهقرت!
لكني أخيرا قررت ألا أخطو في متاهة
المقدمات المملة.. بل سأخطو إلى عمق آلامي مرة واحدة."
وفي الصفحة الثانية قرأ:
"لا أدري على من أشفق؟!.. أعلى
ذلك العاشق المتخفي الذي يسكن داخل العملاق باستحياء أم على نفسي؟!
ليتني أملك استخراجه من داخل العملاق
فألكمه حتى أدمي وجهه وحياءه المستفز..
نعم.. سأصب عليه جام غضبي لأريح العملاق
من شره وأحرره من ألمه! فلقد فات أوان المصارحة والمكاشفة.. لقد فات أوان تعديل المواقف
وتغيير مجاري القنوات!"
إنها خواطر قصيرة كتبت له, له هو
بالفعل, لم يعد يشعر بالوقت, كان يحاول التهام الحروف دفعة واحدة ليعالج صدمة
الاستيعاب التي أصابته, فلعل الصورة تتضح له مع المزيد من القراءة.
وفي صفحة أخرى قرأ:
"إلى أين ستذهب أيها العملاق
الملثم؟
مسكين أنت يا قاتل نفسك ويا مشقي روحك
وجسدك! مسكين أنت أيها العاشق المتخفي في ثوب اللامبالاة والجمود!
نعم يا سيدي أنت مسكين حقا! لكنك مسكين
مرة واحدة أو ربما مرتين.. بينما حظي مما أنت فيه مثنى وثلاث ورباع!.
مسكين أنت.. ﻷن كلماتي التي أنثرها
خواطر وأشعار هنا وهناك تأسرك وتسحرك!.. فيتمنى قلبك الرقيق لو أنها كتبت فيك أو نظمت
من أجلك.
ومسكين أنت أيضا لأنك تترقب اهتمامي
بك مرة بعد مرة دون جدوى.. وتراني وأنا أكيل الاهتمام لجميع الناس بسخاء فإذا ما تعلق
الأمر بك رأيتَ عطائي لك من الثناء والاهتمام قد نضب، فجاءتك ردودي باردة بلا حرارة
ولا طعم ولا لون..!
ﻷجل ذلك أعترف.. أنت مسكين يا سيدي
وإن تظاهرتَ بغير ذلك.. وإن كتمتَ عن العالمين حقيقة ما بداخلك!.
وأما بالنسبة لي فأنا مسكينة أيضا..
وسبب شقائي يا سيدي غير سبب شقائك,
ومادة بؤسي غير مادة بؤسك, وأنا أرى أن ما بي يفوق ما نزل بك ويضاهيه!
انتهى الجزء الثالث
وفي الجزء الرابع بإذن الله سنعرف سبب شقائها ومادة بؤسها.. وموقفه من هذا كله.
همسة:
حرر 23 شعبان 1436هـ