يسر الله لي الحج عندما كنتُ في الصف
الأول ثانوي , وكان الحج بمثابة صدمة لي , فهو ليس كما توقعتُ وتخيلتُ , فقد خرجتُ
للحج أمنّي نفسي برحلة ترفيهية , قد تشبه التخييم في البر مثلا , إلا أن حجم الجهد
الذي بذلته , والإرهاق الذي لازمني , هو ما صدمني وألجمني وفاق تصوري .
وفي نهاية حجتي تلك أعلنتها جلية داخل
نفسي : الحمد لله الذي جعل الحج جهاد المرأة , وفرضه علينا مرة واحدة في العمر , فإن
كتب الله لي طول حياة فلن أعود لهذا الحجم الهائل من المشقة مخيّرة أبدا !!.
ومرتِ السنون , وشاء الله أن أخرج
مع أحد محارمي لتوصيل أقارب لنا من المدينة إلى مكة , ليلة عرفة , فيسّر الله لنا دخول
مكة , على عكس ما توقعنا , حتى أنزلناهم على بلاط الحرم المكي .
ولا أخفيكم شعرتُ حينها باشتياق يتصاعد
داخلي للحج . وتفاجأتُ ونحن نولي مدبرين عائدين إلى ديارنا , بصرخة أطلقها مرافقي
, اهتزت لها جنبات السيارة , فلتفتُ أرقبه وهو يقول :
( والله إنه لحرمان !! أن نصل إلى
بلاط الحرم ثم نعود بلا حج ... والله إنه لحرمان ,
والله لئن كتب الله لي عمرا لأكونن
مع الحجيج في العام المقبل بإذن الله ).
لقد قالها والحزن يقطر من فيه , رغم
أنها ثاني أو ثالث حجة يتأخر عنها في حياته , فو الله علمتُ حينها أن الحرمان الذي
يقصده إنما هو بذنب سوء نيتي في حجتي الأولى , فظللتُ ألوم نفسي وأعاتبها .
فلما كان الحج من العام القادم , وإذا
بالحجيج قد فارقوا ديار المصطفى , فبدتْ بعدهم
خالية , كان من بينهم محرمي ذاك , وقد وفقه الله فأبر بقسمه , وبقيتُ بعده أمام شاشة
التلفاز أتجرع مرارة الحرمان وحدي , وأنا أرقب الحجيج في منى وهم متشوقون للوقوف بعرفة
في صباح الغد . تنهمر مدامعي حزنا على حالي , فأخفيها عمن حولي . وحين قلّبتُ القنوات
لعلي أشغل نفسي عن تعذيبها , إذ بالشيخ عبد المحسن الأحمد يبكي وهو يتحدث حديثا عذبا
مؤثرا ـ بأسلوبه الرقيق ـ عن الشوق إلى عرفات , فزادني ألما على ألم , وانهمرت أدمعي
دون توقف . وأعلنتها توبة نصوحا عما حاك في نفسي من الإثم في ذلك الوقت , وحين شعرتُ
بالإرهاق نهضتُ استعدادا للنوم , وأنا أوصي إخوتي بإيقاظي وقت السحور , عازمة على صيام
عرفة .
وبينما نحن كذلك إذ بِطلَّة والدي
الحبيب تشرق علينا , فيقول بابتسامة عريضة محببة :
من يشجعني منكم لنكون غدا مع الحجيج
في صعيد عرفة ؟؟
حينها توقف قلبي وكاد ينخلع من بين
أضلعي , لم أعي ما يقول , صرختُ ... فرحتُ ... بكيتُ ... لا أجزم بما حدث وقتها , غير
أنها كانت سعادة لا حد لها , ولا قوة لي على ضبط مشاعري حين تلقيتها . ولا أظن مدادي
سيوفيها حقها .
وبالفعل منّ الله علينا ويسر لنا التلاحم
مع وفود الرحمن في صعيد عرفات قبيل عصر ذلك اليوم المبارك
وإذا بها حجة رائعة , تلذذتُ فيها
بكل تعب ومشقة , وظللتُ ألهج فيها بحمد الله على ما يسر لي في آخر اللحظات ,
ولم أحرك قدمي من الصعيد الطاهر إلا
وقد أعلنتُها بقوة :
( سأعود يا عرفات , سأعود ... بإذن
الله )
أسأل الله أن ييسر لي ولكم ولكل مشتاق
حجة مقبولة في القريب العاجل بإذن الله .
وفقنا الله وإياكم لطاعته.
حرر ونشر في 14/11/2010م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق