أحداث الجزء الأول من هنا
وأحداث الجزء الثاني من هنا
وأحداث الجزء الثالث من هنا
أحداث الجزء الرابع من هنا
هاتف صديقه وطلب إليه أن يقدم سفره
أسبوعا, وبالفعل نفذ مراده, وحين رآه رق له وأشفق عليه, ونصحه بتأجيل السفر حتى يتعافى,
لكنه أصر على السفر فليس ثمة عافية ستلحق به في هذا المكان بعد الذي جرى, فساعده صديقه
في حزم أمتعته وايصاله إلى المطار وهو لا يعلم حقيقة ما بداخله.. فقط شعر بأن معاولا
لا مرئيا من الانكسار يعمل بلا كلل داخل هذا الرجل ليفتت كل ذرة من كيانه, حتى استحال
شبحا صامتا خلال أيام, وها هو يتكأ بوهن على كتفه ميمما وجهه نحو الهروب الكبير..
وطوال رحلته وبعد وصوله وبعد ملاقاته
لمندوب شركة ترتب رحلات المبتعثين حتى توصلهم إلى المسكن المتفق عليه سلفا؛ ظل هدفه
الوصول إلى سرير يلقي بكاهله عليه بين جدران أربع لا يراه فيها أحد ليزيل قناع التماسك
الذي بدأ ينصهر عن وجهه.
ومرت الأيام بطيئة رتيبة, التحق
بالدراسة وقلبه لاه عنها, قلما يشد انتباهه حدث من أحداث الحياة, يمضي يومه كأنه
معزول عن الناس وعن الحياة بمباهجها بغلاف زجاجي, بينما هو وجراحه وآلامه داخل ذلك
الغلاف, وتحت قدمه تناثرت جثث أحلامه المؤدة التي لم يواريها التراب بعد, وداخل غلافه
العازل هذا ثمة صراعات تجري يوميا, صراع بين الحب الأناني وبين الشهامة والمرؤة,
تارة يغلب الأول منهما الثاني, وتارة يغلب الثاني, وسواء أنهزم الحب أم انهزمت
الشهامة والمرؤة فإنه هو الجريح المتألم في كل الأحوال.. هو المنهزم المنكسر في كل
الساحات, لا شيء يشغله عن تلك المعارك سوى دقائق
يقضيها في صلاة خاشعة أو في تلاوة القرآن فيفتح له كوة في جسم ذلك الغلاف فيعرج من
خلالها الى السماء ليحلق في عالم من الأنس والنور, فيحلق متخففا من همومه تاركا صراعاته
الداخلية وراء ظهره.
وهكذا توالت الأيام وأخذت الحياة
دورتها الطبيعية وتعاقبت الشهور, ومع تواليها بدأ يستفيق تدرجيا.. وبدأت تنقشع
الكآبة من حياته, وبدت رؤية الكون والأشياء من حوله أكثر وضوحا في عينه من ذي قبل,
حتى إنه أدرك بعد مرور 8 أشهر أنه لا يرغب في استكمال هذه الدراسة البائسة
الثقيلة, لقد استفاق على زهد شديد فيها وفي كل ما حوله, مع رغبته شديدة في العودة
الى الوطن, ليس شوقا إلى فتاته؛ فتلك المشاعر قد تغلب عليها منذ زمن حتى أنها لم
تعد تسيطر على تفكيره, فحبيبته تلك ماتت في قلبه مذ اقترنت برجل آخر, وقد مضى وقت
طويل على زفافها, ولا يُستبعد أنها تستعد لتجربة مشاعر جديدة تنتظرها كل عروس
بفارغ الصبر ألا وهي الأمومة, لقد انتهى كل شيء.. واستمراره في الهروب ضياع لنفسه
وكيانه, فشوقه لوطنه وأهله وأحبته يتضخم يوما بعد يوم, هو لم يكن يتواصل معهم, فقط
شقيقته كانت حريصة على التواصل الدائم معه, وثمة اثنين من أصدقاءه المقربين, فحتى
الصدقات تتكشف معادنها كلما زادت أميال المسافات الفارقة بين الأجساد مهما توفرت
وسائل الاتصال والتواصل الحديثة.
كان اتصال شقيقته يعد بمثابة خنجر
في دفاعاته إنها تحمل صوت أمه الدافئ, وأنفاس الماضي البعيد, وذكريات الصبا الجميلة.
كان يحدثها كما الطفل الصغير.. وكانت تدرك حاجته
لسماع صوتها ومعرفة أخبار أسرتها الصغيرة ليشعر بالأنس, فبعد ان لحقت والدتهما
بأبيهما في العالم الآخر وهي تتألم لأجل وحدته وعيشه وحيدا بلا أسرة, لأجل ذلك كانت
تجمع له المواقف المضحكة والطريفة التي تجري في عالمها لتقصها على مسامعها في
نهاية كل أسبوع.
كانت تجعله يقهقه من قلبه, ولم
تكن تدري أنها تسيل مدامعه أيضا في بعض الأحيان, لم يتجرأ ليسألها عن أحوال خالته
تحديدا, لكنه فوجئ بها بعد 8 أشهر تتحدث عن وليمة أقامتها في منزلها لخالاتها
ولأجل ذلك انشغلت عن الاتصال به, سألها بشكل آلي: وكيف حالهن جميعا؟
أجابت بمرح: كلهن بخير, لقد سعدنا
باجتماعنا ولم يكن ينقصنا سوى أمي الحبية رحمها الله, وخالتي أم خالد.. حاولنا
اقناعها بالمجيء لكنها لا تستطيع الخروج من المنزل كثيرا بسبب ابنتها شفاها الله
وعافاها.
خنجر غادر مرق إلى قلبه على حين
غفلة, وضع يده على صدره يتحسسه وكأن الطعنة حقيقية, ولماذا عليه أن يهتم؟ لماذا
عليه أن يسأل إذا كانت أخته نفسها تجاوزت الأمر وشرعت تقص عليه ما حدث في اجتماع
أقاربهما.. هل يعود ويسأل؟ هل يؤلم قلبه الذي تعافى وتماسك؟.. لعلها مرهقة تنتظر
مولدها الأول في أشهر حملها الأخيرة, أو لعلها مصابة بوعكة صحية جعلتها تلجأ إلى
أمها لتمرضها..
استفاق على صوت قهقهة أخته.. لا
يدري عن أي شيء كانت تتحدث؟ حاول مجاراتها في الضحك, لكنه يجزم أنها أدركت انشغاله
عن حديثها فخفتت نبرات حماسها, وعند أول نقطة صمت وضعتها, باغتها.. بل باغت نفسه
بسؤالها:
ما بها ابنة خالتي.. تقولين أنها
مريضة؟..
فأجابته: ألم أخبرك من قبل؟؟
وكانت المفاجأة..
مسكينة وفاء.. إنها..
انتهى الجزء الخامس
وفي الجزء السادس بإذن الله سنستكمل
أحداث القصة..
همسة: